فؤاد بلحسن - الانتحار والمدينة: بين شعوذة المثقفين وقهر الواقع ورسائل الحب! «مبادرة تنشيط المجتمع المدني (13)»


ألاحظ بين الفينة والأخرى أن بعض من يعتبرون أنفسهم مثقفين يرددون وينشرون تعليقات غريبة من قبيل "الانتحار عمل بطولي بامتياز"! وكان كثيرون منهم يَــبُـثُّون هذه الرسائل على شبكات التواصل الاجتماعي حيث يوجد أطفال ومراهقون وأشخاص يعانون أزمات نفسية! والعجيب أنهم يُـقرون ذلك من دون استناد على أية بحوث علمية تخصصية أو سرديات فكرية تستحق الذكر؛ حيث عندها كان يمكننا أن نتحاور معهم على أسس موضوعية تناقش الفكرة بالفكرة.  كل ما في الأمر، هو أنهم قـرَأوا أو سمِعوا أن المفكر الكبير الفلاني أو الزعيم العظيم العلاني، قرَّر في لحظة ما أن ينتحر. لكن، من قال لهم أن هذا أو ذاك فَـعَـلَ مَـا فَـعَـلَ بدافعٍ بطولي يمكن تحديده بوضوح؟!
 

كنتُ على معرفة قريبة نسبـيا بشخصين قَـضَـيَـا انتحارا. بل أكثر من هذا، وقفتُ على حيثيات انتحارهما عن قرب؛ حيث كنت على تواصل معهما ومع أقاربهما (قُـبَيْلَ وبُعَـيْدَ حادث الانتحار) وعرفت عنهما بصورة مباشرة وغير مباشرة ما يكفي لأستعرض قراءة مختلفة لسردية البطولة الحمقاء المذكورة آنفا.
الحالة 1: شابة على مشارف الثمانية عشر ربيعا. جَـمَعتني بها صداقة خاصة. لساعات طويلة، تحاورنا في شؤون الحياة المختلفة حسب السياقات. وفاتحَـتني في بعض خصوصياتها على سبيل الاستشارة حينا ولمجرد الرغبة في الحديث حينا آخر. ولأنها كانت تجد عندي حيزا من الوقت للإنصات وذرف الدموع، كانت لا تتردد في البوح والبكاء أمامي. مع الوقت، اكتشفت أنها ترزح تحت ضغط نفسي واجتماعي كبير: وفاة الأب الذي كان بمنزلة الصديق التي أشعلت فتيل ذكريات لا تنضب، فشلٌ في الدراسة بسبب ذلك بعد سنوات متتالية من التفوق، فشل في الحصول على عمَلٍ قار وبأجر محترم، عدم استيعاب الأسرة للواقع النفسي الجديد للفتاة، وضع مادي لا يـسد كل الحاجيات، إحساس بالقهر الاجتماعي وانسداد في الأفق تُغَذيه اندفاعية الشباب.
تراكمت هذه الضغوط لفترة طويلة، ثم جاء الوقت لينفجر كل شيء. ابتلعت سُمـًّا، وطَفِقت تُـرَدِّد: «حْݣـرُوني.. حْݣْـرُوني»، إلى أنْ تُوفيت!
الحالة الثانية: رجل في السابعة والثلاثين من عمره، متزوج وأب لطفلة ذكية وجميلة. يُتابِـع، طبيا، لدى متخصص حول مرضٍ عصبي. قالت زوجته أن تشخيص الطبيب خَلُص إلى أنه مُصاب بالوسواس القهري. مع الوقت، ما عادت الأدوية التي يتناولها تُأْتي أكلها. قُبيل انتحاره، لم يذق طُعم النوم لمدة 3 أيام والأكل لمدة يومين وتزاحمت الأفكار في رأسه وضاق بها وأمسى تَدَاعِـيـهـَا عبء ثقيلًا عليه وألـمـاً لا يُطاق، لِـذا ألقى بنفسه من سَطح منـزِل مُـكـوَّن من طابقين. بعد سبعِ ساعات، أسلَم الروح لخالقها متأثرا بِكَسْر على مستوى الورك وألم شديد وجروح ورضوض على مستوَيَـي الكتف والكوع الأيسَرَين والرأس والبطن. ما إن تُوفي، حتى بدأ بعض الجيران والمقربين في الحديث عن سوء الخاتمة وما إلى ذلك! لم أسمع أحدا - إلاَّ ما نَـدَر - يتحدث عن حالته الـمَرَضية التي كثيرا، وهذا واقع حتى في الدول المتقدمة، ما تنتهي بأعمال مأساوية كهذه إذا لم تَـجْرِ متابعتها عن كثب وبعناية خاصة ومعالجة جد دقيقة.
حينما اطَّـلَـعَـت الطبيبة في قسم المستعجلات على قائمة الأدوية التي كان يتناولها الفقيد، صرَّحت أن الطبيب المُتابِـع كان يُـقدِّم له وصفات طبية عامة تُقدَّم في العادة لمن لم يـتـم بَعدُ تشخيص حالتهم بعدُ، بيد أنه في حالة المتوفى كان من المفروض أن تُقدَّم له أدوية خاصة ودقيقة! كما صرحت أنه، بالنظر لظروفه الصحية، كان من المفروض أن يُـودَع في مستشفى خاص بالأمراض العقلية والنفسية لأنه، في هذا الطور المتقدم من المرض، صار يُهدِّد سلامته الشخصية وسلامة غيره على السواء. لكن لا شيء من هذا تم، فانتهى الأمر بمأساة!
أين قـصص البطولة التي يَهذِي بها "المتثاقفون" المذكورين في كل هذا؟! كانت الفتاة والرجل، معا، ضحيتين بامتياز. كان يمكن للفتاة أن تستمر في العيش بيننا بسعادة وهي الشابة اللطيفة والأنيقة والمستقيمة في سلوكياتها، لو أننا احتضنناها كأقارب وأصدقاء بمزيد من الحب، لو أننا حَقَـنْنَاها كمجتمع مدني ببعض الأمل بغد أفضل، لو أننا وفَّـرنا لها كمدينة وساكنة محلية فرصةَ عَملٍ كريم. كان يمكن للرجل أن يستمر في العيش وسط ابنته الوحيدة وزوجته لو أننا توفرنا على سرير طبي خاص بهذا النوع من المرضى، لو أننا وجهنا النقاش كإعلاميين ومثقفين إلى معالجة الظاهرة كمشكلة اجتماعية تغزو ثقافتنا الحضرية لا موضوعَ إثارة وتسويق لمواقعنا وجرائدنا، لو أن الطبيب استطاع تقديم تشخيصٍ دقيق لحالته ووصفٍ مناسب لسبل العلاج، لو أن لنا مجتمعا مدنيا يمد لأمثال هذا المريض يدا للمساعدة.
يمكن أن نتابع على نفس المنوال: لَـوْ... لو... لو... إلى ما لا نهاية، لكن ما قيل يبدو كافيا للقول أننا في حاجة إلى العمل من أجل « الغير» الذي يمثل جزءا من الـ«نحن».
يذكر أنتوني غِدِنز، عالم الاجتماع الكبير، أن عددا متزايدا من علماء الاجتماع أخذوا يركزون اهتمامهم على دور المساندة والتماسك والتضامن الاجتماعي في تحسين الوضع الصحي للأفراد والجماعات. وفيما يتعلق بصلب موضوعنا، سبَق لإميل دوركهايم، قـبل أزيد من قرن من الآن، أن أوْضح أن الأفراد والجماعات التي تكون أكثر اندماجا وتكاملا في المجتمع تكون أقل ميلا إلى الانتحار. ومن بين علماء الاجتماع المحدَثين، يرى ريتشارد وِلكِنسون أن المجتمعات الأفضل من ناحية المستوى الصحي لا توجَد في الدول البالغة الغِـنى والثراء بل في الأقطار التي يكون فيها توزيع الدخل أكثر توازنا ويَـشيع فيها الاندماج والتكامل الاجتماعيين إلى مستويات عالية. وبموجب هذا المنظور، فإن تزايُد العزلة الاجتماعية والفشل في التعامل مع الضغط النفسي يُمثلان جانبا من المؤشرات على الوضع الصحي للفرد والمجتمع. وبالتالي، فإن العوامل الاجتماعية – مثل قوة الصلات الاجتماعية والوشائج التي تربط الأفراد في الجماعات وفيما بينها، وتوافُـر المساندة الاجتماعية والإحساس بالأمن – هي العناصر الأساسية المُحدِّدة للصحة النسبية في المجتمع (أنتوني غِدِنز، علم الاجتماع، 2001).
إننا في حاجة إلى صياغة ذواتنا بصورة تُدمج آخرنا فينا.. الآخر المستبعد، الآخر المهمش، الآخر المقهور، الآخر المريض، الآخر الضعيف، الآخر الهش، الآخر الوحيد، الآخر الذي يحتاج إلى المساعدة، الآخر المظلوم، الآخر الفقير، إلخ.
يمكن للتفكير الجماعي أن يخدم الفرد، كما يمكن لفكر الفرد أن يخدم الجماعة. التفكير الجماعي يُدخِلنا في دورة إنجاز تخدم المصلحة الكبيرة لا المصالح الأنانية الصغيرة. كما أن العيش والاندماج داخل الجماعة يعطي للفرد حدا أدنى من الاتِّـزان في الشخصية وحدا أدنى من سد الحاجات التواصلية والتفاعلية.
على منوال دويستوفسكي حين قال «الجمال سيُـنقد العالم»، يمكن أن نقول أيضا أن الغَـيْـرِية ستُنقد العالم. لأن الإنسان الذي لا يُفكر إلا في ذاته لن يرى معاناة الآخرين، وقد يدوس عليهم من دون أن يلتفت إلى صراخهم!
لنبحث إذن عن سعادتنا في سعادة الآخرين. ولنجعل من حب الناس العميق والفعلي تيارا معنويا لشفائنا الجماعي من الإحساس بالعزلة والاكتئاب والملل والضياع والضعف...
الجماعة، العيش في الجماعة، العيش من أجل الجماعة والعيش مع الجماعة دواء.


belahcenfouad@gmail.com


تعليقات