فؤاد بلحسن - مدينة أمام خيارات صعبة وإرهاصات التصالح مع الذات «مبادرة تنشيط المجتمع المدني (15)»

على هامش دردشات مع حمادي، صديق البيئة والناس




لا يوجد شيء أسوء من أن يفقد الشخص شعوره بذاته. نفس الشيء مع الجماعة. حين تضيع هوية الجماعة، حين تفقِد شعورها بذاتها، حين تفقد ثقتها في نفسها، فإنها تتجه اتجاهات مدمرة للكيان الجماعي. وفي هذه الحالة، تَفقد الكثير من العناصر الصحية أهميتها داخل نسيجنا المديني، كالقدرة الجماعية، الأمل، الهوية الجماعية، المشروع الجماعي، التضامن الجماعي،...

 ولهذا، من السهل جدا أن نُعاين الكثير من الأعراض غير الصحية في روحنا الجماعية؛ فالمفارقة والفصام والكذب والزيف وشلل الإرادة واليأس والتذمر المستمر كلها أمراض أمست جزءا من اجتماعنا المحلي، أو قل مظاهر لبِنيتنا العميقة التي تخترق سيكولوجيتنا ومنطق تفكيرنا وفعلنا الجماعي. حتى أنني، وبعد طول تأمل وتفكير ونقاش مع زملائي وأصدقائي، انتهيت إلى أننا، كجماعة، ما عاد يصلح معنا النقد السياسي والتحقيق الصحفي والنضال الحقوقي والمرافعة المدنية، وإنما يتعين أن نكون موضوعا من موضوعات علم النفس الاجتماعي، كجماعة يتعين أن توضع على السرير الطبي. هذا هو المظهر العام للمأساة!
مع ذلك، أُفَضل ألا نقف عند «ويل للمصلين» وكفى! وذلك من منطلق إيماننا أن الجماعة تتحرك، وخَلفها ومعها بنيتها الدفينة. وما دامت الجماعة في حركة فإن البنية لا بد أن تقفز إلى وضع جديد في بنائها وديناميتها. ولعل هذا ما يحصل الآن.
فإذا كانت الأحزاب السياسية وجمعيات "الهمزة" المدنية والصراصير  (أي المناضلون الذين يناضلون باسم الشعب ليسرقوه على غفلة منه) يمثلون جانبا من مظاهر  مرض بنيتنا العميقة وأهم أسبابها في آن، فإن حركية المجتمع المدني الجاد التي بدأت تظهر على سطح المدينة تمثل فعلا نشِطا وجديدا في داخل هذه البنية العميقة ذاتها، وهي تؤشر على أمل في الأفق. الأمل الذي يقوم على النوايا الطيبة للشابات والشبان الذين حركوا إرادة الفعل داخلهم، فغَـيروا بعضا من محيطهم القريب. أكتب هذه السطور وفي ذهني الحَركية النبيلة التي أشعل فتيلها الصديق العزيز، حمادي بنرزوق، راعي النباتات المعروف في المدينة.
أطلق حمادي، بعَفْوِيَته الجميلة، شعارا بسيطا «هْبْطْ تْجْمْعْ كَـاغِيطـْـكْ!» حبا في الإنسان والبيئة والمدينة. فالرجل لا يفصل بين الإنسان والنظافة والتربية والبيئة، ويقول «لا يمكن أن تكون عندنا مناطق خضراء بينما نحن أناس متسخين!».  كما أنه يؤمن بأن «الوطنية عمل على الأرض» لا شقشقة لسان. ولهذا، خرج، معبئا معه مجموعة من الشبان، فجعل من الكثير من الأزقة والجدران المتسخة ورشة للنظافة والتزيين والإبداع (أنظر الصور).
وفي رمشة عين، ولأن الفضاء العمومي كان متعطشا لاستقبال كل هذه المعاني الجديدة، انتشرت مبادرته من زقاق إلى زقاق ومن حي إلى حي (من زنقة شعيب الدكالي بحي المعمورة، إلى أزقة أخرى بحومة صحراوة وحومة الجامع الكبير وزيمرمان والأزقة الخلية لزنقة لالة الياقوت) (أنظر الصور)
وفي الوقت الذي كان هؤلاء المتطوعون يعملون متوسلين أبسط الأدوات والإمكانيات، بعيدا عن أي استثمار سياسوي، تفاعلت معهم السلطات المحلية بصورة فيها الكثير من الاستخفاف والنزق الفارغ والصبيانية؛ فبعد أن وعدَتهم بتقديم بعض الدعم لمبادرتهم، تنصلت من كل وعودها واكتشف القيِّمون – كما أخبرني أحدهم - أن الأمر مجرد كذب في كذب. والمضحك الـمبكي أن كل ما كان يشغل السلطات حقيقة هو البحث، عن طريق المقدْم، عمَّن يُـمَول، من خلف الستار، هذه المبادرة.  كان هذا الأمر ليؤكد شيئا، فهو أن السلطات المحلية عندنا ما زالت غارقة في مقاربات تقليدية وأمنية عفَّ عليها الزمن، في وقت تتحرك ثقافة الشارع وتتحرك معها أفكاره ورُؤاه وتقييماته للأوضاع والأشخاص والمؤسسات. هذه الفجوة – بين الشارع والمؤسسات - نراها كبيرة ويروها غير ذلك. فبعدما تجاوزها الشارع ثقافيا، ظلت مؤسساتنا وفية لثقافة بالية قوامها الضبط والتحكم وشراء الذمم ونسج شبكات المصالح الريعية والكَـيْد السياسي ومحاولة تعطيل حركة التاريخ.
وفي الواقع، مما أعجبني بعض هذه المبادرات، هو أنني وجدت لدى أصحابها وعيا بخريطة فساد المجتمع المدني ونقدا لاذعا لمثقفي البرج العاجي في المدينة الذين استقالوا من هموم الساكنة. فهم يؤكدون أن مبادرتهم تتمَوقع خارج الحسابات السياسية الضيقة وأنها أمست مرآة لفساد وفشل النخبة المسيرة للمدينة، وأن الصراصير الذين يضحكون على الرأي العام ويركبون على قضاياه العادلة ومبادراته النبيلة لن يجدوا موطئ قدم فيها، وأن مثقفي المقاهي يجب أن يخجلوا من أنفسهم وهم ينشرون أرجلهم صباح مساء على أرصفة المقاهي بلا فائدة تُذكر إلى درجة أنهم أمسوا عالة على المجتمع لا عونا له.
يؤكد هؤلاء المبادرون الشبان من خلال تصريحاتهم وعملهم أن مبادرتهم مبادرة مدنية، هدفها تكريس مسؤولية الانسان على محيطه. وهذا في نظري ما يفرض على السلطات العمومية والنخب الفاسدة أن تبتعد عن هذه المبادرات التي تسعى لأن تصنع من لا شيء إنجازا ما جميلا لمصلحتنا جميعا.
هكذا، تتحرك المدينة من جديد. مبادرة هنا وأخرى هناك، أمل أخضر هنا وآخر أصفر هناك. بهذا فقط يمكن أن نرسم خريطة جديدة للإبداع والعمل الجماعي والذوق السليم والمعاني الانسانية. وهي مناسبة، لأدعوا كل أبناء المدينة إلى أن ينزلوا للشارع العام (الميدان) ليقولوا كلمتهم من خلال إطلاق مبادرات شبابية في خدمة الفقراء والمرضى والمحرومين والأطفال والثقافة والفن والتعليم والمدمنين، إلخ.
أمامنا مبادرة حمادي، وأمامنا وخلفنا أيضا الكثير من المبادرات التي تستأهل المتابعة والدراسة والتأمل. جمعية بسمة أمل، جمعية السواني، جمعية الرتاحة، مبادرة تطوع، نادي سحر الكتب، راديو الشباب، وغيرها من المبادرات التي تستحق أن يُقتدى بها ويُعمل بالموازاة معها.
من واجب أبناء هذه المدينة أن يكفوا عن البكائيات والشكاوى الطويلة العريضة، المضيعة للوقت. التوعية والنشر والنقد في مواقع التواصل الاجتماعي مهمة ومطلوبة، لكنها غير كافية ولن توصلنا سوى إلى نصف الطريق. أما النصف الآخر فإنه يُنجَز في الميدان، وفي الميدان فقط. فالجماعة التي تعيش على انتظار أداء غيرها (دولة، مؤسسات، نخب،...) ستبقى دائما تابعة لهذا الغير. كما أن سلوكها الانتظاري ذاك، سيجعل منها جماعة مشلولة، لا تُراكم ثقافة الإنجاز. ففي ظل الانتظارية السلبية يُمسي هذا الغير  هو المتحكم في الوتيرة الجماعية مهما عَلا واشتدَّ صراخ وتَـوجُّع الجماعة المعنية. فجدل المؤسسات والمجتمع جدل خطير، وهو إما أن يكون فعالا أو فاشلا. ولن يكون فاعلا إلا إذا أمست الثقافة التي تحتضنهما معا ثقافة منتجة وهادفة ونشطة.
أمس، أيضا، التقيت بحمادي، فقال لي جملة بليغة، فيها ما فيها: «الناس هْنَا خاصْها تْحْبْ الحياة»!
لنجعل ألف زهرة وزهرة تتفتح!





















 


تعليقات