فؤاد بلحسن* - عام مختلف: الكتاب في قلب العمل المدني بالمدينة (تجربة نادي سحر الكتب) - مبادرة تنشيط العمل المدني 17




سنةٌ مضت على تجربة نادي سحر الكتب (الخميسات)، الذي بدأ فكرةً صغيرةً ثم صار  قصةً مركبةً عن الإرادة والوعي والتخطيط والمثابرة. فكما جاء في مقدمة فيلم «الشيطان والبحر الأزرق العميق[1]» لِـــــمُخرِجه بِيل پَّارْبْل، فـَ «إن معظم القصص التي تُحكَى غالبا [بما فيها القصص العظيمة] لا تبدأ من حيث نعتقد أنها بدأت، بل تبدأ في يوم عادي مع شخص عادي».

 على امتداد سنةٍ كاملة، أنجز أعضاء النادي – خديجة، سلمى، عادل، لبنى، أسماء، موسى، يوسف، يوسف 2، جهان، هند، ريم، مروة، كمال، بلال، مريم، إدريس، جواد، عبد الجليل، امحمد، سعيد، فؤاد، وآخرين – معجزةً صغيرة. حوالي 29 نشاطا ثقافيا في السنة (من لِيُصدِّق هذا؟!)، ساهمنا من خلالها في دعم مجموعة من المكتبات العمومية، جمعنا التبرعات بالكتب (مئات الكتب)، حفَّـزنا الناس على القراءة في روض الأطفال والمدارس والشارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، أعددنا مُراجعاتٍ وقراءاتٍ في الكتب، ناقشنا مواضيع مجتمعية راهنة ومثيرةً للجدل، اختَـرقنا أبواب السينما وتساءلنا بشأن علاقتها بالكتاب، عرضْنا أشرطة ورسائل تحفيزية، أطلقنا جائزةً لتكريم العاملين من أجل الكتاب والثقافة، تواصلنا افتراضيا مع الآلاف من المهتمين بشَوَاغل الفكر والأدب، وغيرها من الأنشطة...
فلماذا الكتاب تحديدا؟
هذا سؤال يتجاوز نفسَه ويتجاوزُنا. نعترف أن النقاش بهذا الخصوص رافقنا على امتداد التجربة. لماذا الكتاب وليس شيئا آخر؛ كالتكوين، الأسفار، المسرح، الغناء، أو غيرها من الأنشطة الثقافية؟
حمَلْنا السؤال معنا وتركنا التجربة تُـلقي علينا أصداءَ أجوبة. وكذلك كان! فقد دفعنا مئات الأشخاص ليفتحوا كتبا ويُطالعوا مواضيعها، ودفعنا عشرات من الناس ليسجلوا أنفسهم بالمكتبات العمومية، وأقنعنا بعضهم ليقتحم قلعة تعلم الأبجدية وليقرأ أول صفحة في حياته وليعبر لنا عن إحساسه ذاك، ووفَّرنا لكثيرين حلقاتِ نقاش ليُعَبروا عن أفكارهم ويناقشوا غيرَهم، وأقنعنا البعض الآخر بأن يقرأ أول كتاب له على سبيل القراءة الحرةِ من قَيد الواجب المدرسي أو الجامعي، وحفَّزنا آخرين ليُحدِثوا نوادٍ خاصةٍ بهم، وشَحننا كثيرين بجرعات من الثقة في النفس المستندة على نضج في الذهن، وتلقينا وتفاعلنا مع مئات الرسائل والتعليقات، وفي الحد الأدنى دفعنا أناسا ليتساءلوا: لماذا يقرأ هؤلاء؟ وكان هذا السؤال يكفينا. فالسؤال زلزال صغير  في العقل له ما بعده!
والأمر الغريب بالنسبة لكثيرين أو المثير بالنسبة لنا هو أننا فعلنا ذلك من دون أن يكون للنادي هيكلةٌ رسميةٌ (رئيس، نائبه، كِتابة...). اشتغلنا بفلسفة الفوضى المنظَّمة أو الخلاقة، ليس على الطريقة الأمريكية التي تستثمر في الحروب وتُخَلف وراءها ملايين القتلى والضحايا وأطنانا من الدمار، بل بطريقة تُؤْمن بالإنسان وتُـوَسِّع حظه من الحرية وتوفر له مساحة كافية للتعبير  بصوت مسؤول... كانت الحرية سرنا في التطوير وإبداع أفكار جديدة في كل فرصة نقاش... كان النقاش مُغذيا لفعلِنا الجماعي باستمرار ؛ لذا لمْ نخْشَ يوما من النقاش الحر.
والآن، بعد أن عَرَكَتْنا التجربة قليلا أو كثيرا، لنا أن نُعلن جوابنا المؤجل والمؤقت أيضا: حينما نهتم بالكتاب فإننا في الواقع نحتفي بممارستين وجوديتين مستقلتين ومتداخلتين في آن: القراءة والكتابة: القراءة كـممارسة تأملية في الذات والعالم عبر مرآة الآخر -أي تجربة الكاتب الفكرية والإنسانية- والكتابة باعتبارها ترميماً للعالم الداخلي واستفزازا إيجابيا للعالم الخارجي، باعتبارها إحياءً لبنية النسق الاجتماعي الفوقية التي خنقتها الإمبريالية بنفوذها وتزييفها للحقائق وللوعي ولممكنات الوجود، و أيضا باعتبارها احتفاءً باللغة واحتكاكا لذيذا معها (واللغة بيت الوجود كما عبر الفيلسوف هايدغر). اهتممنا بالكتاب لأننا اعتبرناه وسيلةَ تحررٍ من الرؤى الـمُقَيدة للإنسان، تلك الرؤى التي تجرده من إنسانيتِه حينما تحجب عنه قِـيَم الخير  والجمال والحب والعدل والتعايش، بل ووسيلةً لإنقاذ هذا الكائن من خطره هو على نفسه أيضا لـمَّا يصير ضحية لانغلاقه، أي لـمَّا يصير دوغمائيا.
يُولَد الكتاب في لحظةٍ ما بين الكتابة والقراءة! في طور الكتابة، يقول الكاتب –على لسان القاص مُوافي يوسف – «أفكِّك مفاهيمي، ما يخصُّني أنا وكذلك العالمُ، وأعيد الترابطَ والترتيبَ وكأني طفل أمام لُعبةِ مكعَّباتٍ مبَعثَـرة. كل ذلك في الكتابة (قَلقي، وَحدتي، حَيرتي، انتمائي، تشتُّتي..). حين أكتُب، أُحِسُّ بها جميعها تذوب مثل كُرةٍ من الثلجِ، بعْدَها أستطيعُ أن أتَــنَــهَّدَ عميقاً، وأنامَ جَـيّداً». ينام الكاتب، فيستيقظ القارئ بكامل عدته المرجعية، الثقافية والأيديولوجية والذوقية والمنهجية، إلخ. ويتفاعل مع الكتاب باعتباره متلقيا ذِي أسئلة وهواجس وتوقعات، ليُنتجا – أي الكاتب والقارئ- نصا ثالثا يجمعهما ويسير  بهما إلى نص رابع، أي إلى كتاب جديد. وهكذا دواليك.
ووجود الكتاب مسألة حيوية أيضا، ترتقي إلى الضرورة القصوى، ولن أجد أفضل تعبير  عن هذه الضرورة مما قالت الروائية آنْ فايْن: «بحثت في البيت عن كتابٍ أقرأه فلم أجد، عندها قررت أن أشرع في تأليف كتابٍ ما». هكذا، ببساطة! فلولا الكتاب لكان التاريخ مجرد أسطورة، جميلةً لكن غير جادةٍ، ولكانت الذاكرة أضيقَ قليلاً...
...
الكتاب موعد لذيذ بين عاشقين يتقاطعان ويفترقان على الكلمات...
الكتاب مسرح للجنون وللتعقل، باعتبار الجنون حق العقل في الخيال، والتعقلِ حقُّه في الفهم...
الكتاب عملة تبادل لا تبور...
الكتاب وِصال بين الانسان وعوالم مجهولة مثيرة  وساحرة...
الكتاب سفير  النوايا المثقلة بقلق السؤال ووجع الحياة وحب المشاركة مع الآخرين...
الكتاب دواء كسلِ الروح...
الكتاب يهدم ويبني...
الكتاب صائغُ هَويةِ قارئ لا تَـفْتَأ تَـتجَدَّد...
الكتاب قوة تغيير بامتياز...


(*) عضو النادي


[1] - يحمل هذا الفيلم عنوانين في الوسط السينمائي: the devil and the deep blue sea   و the book of love

تعليقات