فؤاد بلحسن - مسالك نقاش مع المجتمع المدني بالخميسات / مبادرة تنشيط العمل المدني 22


 

 

خلال العقد الأخير، ساهَمَت مجموعة من الهيئات المدنية بالمدينة بعمل ومجهود كبيرين، وأبْقَت على الحلم حيا وأضاءت شموعا على الطريق. فسياسيا، قدَّم الفرع المحلي لحركة 20 فبراير أداءً نضاليا مُشَرفا، وضَع المدينة على خريطة النضال الوطني ضد الفساد والسلطوية. تنمويا، أبلت إطارات مدنية عديدة بلاءً مُقدرا (جمعية بسمة أمل، جمعية الأمل لرعاية اليتيم، جمعية السواني مبادرات مواطنة، جمعية العمل الاجتماعي، حركة التويزة، شباب هيرو فاميلي، جمعية الأطفال التوحديين،...). ثقافيا، استمرت عديد من الهيئات في تقديم مساهمات مهمة (جمعية الرشاد، مركز فرونتون، نادي سحر الكتاب، نادي الطفل، نادي السينما والثقافة، نادي فن العيش، مكتبة البلدية، بالإضافة إلى الأندية المدرسية [بـِــ : إعدادية الخميسات، إعدادية الإمام مالك، رياض الياسمين،...] وباقي الإطارات الناشطة بدار الشباب [كَـ: جمعية التنمية للطفولة والشباب، الجمعية الوطنية للطفولة والشباب] وتلك الناشطة بفضاء خدمات الشباب وبالقاعات الرياضية). كما كان لعديد من المبادرات صدى طيبا في المدينة، منها مباردات تزيين الأزقة والجدران والساحات والفضاءات العمومية التي قادها ناشطون مدنيون كثر (أذكر هنا، مبادرة "جْمَعْ كَاغِيطْك!"، التي أطلقها الناشط البيئي حمادي والتي كان لها مفعول العدوى على بعض الأحياء المجاورة).  وفي ظل أزمة كورونا، برزت مبادرات طيبة جديدة ومؤقتة (مبادرة الكرامة لدعم الأسر، مبادرة سخرة لمساعدة الأسر، ومبادرات تحسيسية ووقائية عديدة أخرى، بعضها شمل أحياء محددة وبعضها الآخر غطى أكثر من حي،... )، إلخ.

وهذا العمل مطلوب الآن، قبل أي وقت مضى، أن يبقى حيا، وأن يُستأنف العمل عليه، وأن يجري التراكم وِفْقَه، وأن يُستفاد منه، وأن يُدَعَّم بمشاريع  ومبادرات جديدة، وأن يُتَوَّج بشبكات مدنية للعمل المشترك، وأن تستثمر نتائجه -وهذا مهم حد- في مقاومة ثقافة التيئيس الشامل والتبخيس المرضي والتجاهل الحاقد،....

وحين تبرز عديد من الصفحات والمجموعات التفاعلية على الشبكة الاجتماعية في الآونة الأخيرة، معلنة أفكارا أولية ومبادرات لإصلاح الوضع في المدينة، فإن الأمر يستدعي التشجيع المتفائل والمتابعة الحكيمة في آن. وباستثناء الانجازات العملية القليلة جدا التي أفلحت تلك الوسائط في إطلاقها أو احتضانها أو تشجيها ميدانيا، ظل معظمها مجرد فضاء للنقاش النظري..

نعم، تحتاج المدينة إلى تعبئة الناس في جمعيات وأندية ومجموعات افتراضية شريطة أن تكون كل هذه العناصر تصب في خدمة مشاريع جماعية إصلاحية عملية. لأنه في مدينة تعج بالأعطاب تمسي خطابة التباكي وترديد الأسطوانات المشروخة جزءا من المشكلة، لا خطوة نحو الحل، ويصير العمل أكبر الغائبين.

الذي يميز مشاريع الإنماء أو النهوض أو النهضة أو التنمية أو الإصلاح أو التغيير أو التعاون أو المساعدة أو غيرها، هو قدرتها على إحداث الفارق على الأرض وفي الانسان ولمصلحته. فهذا هو المعيار الأساس.

ومساهمة في النقاش (الذي سبق أن أطلقناه في «مبادرة تنشيط العمل المدني»)، يمكن أن أشير -مع المناقشة والتحليل- إلى بعض القيم والمبادئ والتوجهات التي يمكن أن تدعم العمل المدني بالمدينة خلال هذه المرحلة:

1* الواقعية:

لا يستطيع العمل المدني أن يغير بعض معادلات الوضع ما لم يكن واقعيا. وليكون كذلك، يحتاج أن يفهم الواقع الذي يتحرك فيه، من خلال إدراكه للفاعلين وعلاقاتهم، وفرص الإصلاح وإكراهاته، ونقاط قوة الفئة التي يشتغل معها ونقاط ضعفها، وكذا فهماً للسياقات الجهوية والإقليمية والوطنية التي يشتغل فيها. لقد تداعت أفكار وفشلت مبادرات جيدة عديدة لأنها لم تدرك بصورة دقيقة هذه العناصر أو جُلها. وستفشل أي مبادرة في المستقبل إذا هيمن عليها التفكير المجنح. ومن أمثلة هذا التفكير المجنح، ما بتنا نعاينه من تسرع بعض المجموعات في إطلاق وعود وردية بلا حسبان، أو محاولة بعضها تفسير كل ما يجري في المدينة كما لو كان انعكاسا لأدائها، مع أن قوتها ونفوذها وهامش فعلها ما زال في بداياته الأولى.

2* التشاور:

يعد توسيع المشاورات قدر المستطاع واحدا من نقاط قوة أي عمل مدني طموح. فقبل أي انطلاقة، يحتاج كل مشروع مدني أن يضع تصورات واضحة من خلال توسيع المشاورات مع الأعضاء المحتملين في خط القرار والتنفيذ، وليس اعتبارهم مجرد أرقام أو في الحد الأدنى أشخاصا قاصرين عن فهم المطلوب وإدراك الصواب. فأن تبدأ ديكتاتورا صغيرا مُقَنَّعا بالشعارات والخطابة لن يجعل منك لاحقا لا ديموقراطيا  ولا إصلاحيا.

3* الرؤيا/المشروع: الحديث عن الرؤيا أو المشروع يجب أولا وقبل أي شيء آخر، أن يبدأ من نقطة أساس: لا بد في المشروع أن يعي حجمه الطبيعي؛ إذ لا يوجد مشروع مدني من شأنه أن يغير وضع المدينة جذريا. وهنا لا بد من الحذر في إطلاق الوعود الكبيرة ورسم الأحلام الوردية بخيال هذياني. فما هو المشروع الجيد؟ المشروع جيد التصور هو المشروع الذي يرتكز على الواقعية ليرسم تصورا مستقبليا ممكنا، من خلال مراعاة الإمكانات البشرية والمادية المتوفرة والفرص التي يضعها محيط الاشتغال. هذه عناصر يجب أخذها بعين الاعتبار للحديث عن وجود مشروع جيد.

4* التواصلية:

الحفاظ على التواصل الدائم، عموديا وأفقيا، مع الأعضاء، وضمان توصلهم وإدراكهم الصحيح للمشروع والأهداف والأنشطة المبرمجة والأفكار الجديدة ومعطيات الواقع ومستجدات الوضع. وهذا يفترض، ضمنيا، تمكينهم من حق النقاش وعرض الرأي المختلف وتوجيه العمل، بل وضمان حتى حقهم في الخطأ- إذا حسنت النية - باعتباره يمكن أن يكون هو نفسه مدخلا للتعلم التدريجي.

5* الموارد البشرية العاملة:

يجب أن يكون الرهان الأساس على الموارد البشرية العاملة؛ أي التي تتوفر، أولا، على الاستعداد الكامل للعمل وثانيا، التطلع الشديد للإنجاز في نفس الوقت. وعلى هذا الصعيد، يتوجب الحذر من مجموعة من العناصر: 1. الأخطاء القاتلة، وخاصة تلك التي يمكن أن تسقط فيها الفئة التي تجر القاطرة (الكلام الكثير، الوعود الحالمة، التلوث بالفساد، الجري وراء المصلحة الشخصية، حب الشهرة، التسلط، الاهتمام بالقضايا الهامشية، إضاعة وقت الأعضاء بلا موجب أو طائل، تضخيم الانجازات بلا موجب، سوء تقدير الحجم الحقيقي للذات،...). 2. الاهتمام بالكم وليس النوع: في عصر الأرقام، صار البعض يجعل من تنامي الأرقام هدفا في حد ذاته (عدد الأعضاء، عدد الإعجابات، عدد تقاسم المنشورات، عدد التعليقات، عدد النقاشات،...). فكثيرون لا يدركون حجم ما تخفي تلك الأرقام من خداع وتضليل. خاصة أن البعض لا يدرك عديدا من التفاصيل التقنية لاشتغال مواقع التواصل الاجتماعي، أو لا يميز بين الصفحة والمجموعة، وبين عضو المجموعة (المؤمِن بالمبادرة) والمتابع من بعيد، والفرق بين عدد الأعضاء في المجموعات وعدد المتابعين الفعليين، والفرق بين العضو الرقمي والعضو العامل في الميدان، وما إلى ذلك من الفروقات. وعدم التمييز هذا، يدخل أصحاب المجموعات في أوهام كثيرة، ربما أكبر من أوهام الأعضاء العاديين. وهذا أمر يهدد بهدم المشروع من الأساس. 3. أخلاقية الناشط المدني: لقد كان لتدهور الصورة الأخلاقية للسياسي وعدم الثقة في المؤسسات تكلفة كبيرة على المشهد السياسي في المغرب وفي المدينة على السواء. وهذا ما يجب أن يحذر منه الناشط المدني بشدة. فالمطلوب منه أن ينأى بنفسه عن الانقسامات وخطاب التحريض والحضيض والحقد والأيديولوجية المغلقة والخطاب العنصري والاغتناء غير المشروع واستغلال الآخرين لتحقيق الأمجاد الشخصية. لا عمل مدني بلا أخلاق مدنية مناسبة.

6* الإنجاز (الفعالية): لن تُقنع شخصا لوقت طويل بعظمة مشروعك مهما كان ابتكاريا وعبقريا، ما لم يَمْش مشروعك على قدميه فيراه رأي العين. هذه مسألة طبيعية. وبالتأكيد، ستتحقق فعالية أي مشروع إذا ما تم تلبية الشروط الواردة أعلاه. وحينها ستمسي فعاليته تحصيل حاصل. لكن وفي نفس الوقت، يتعين أن يجري النظر إلى ما يراد إنجازه بتواضع دون سقوط في الغرور. فأن أحمل مشروعا للإصلاح لا يعني أن أجعل من نفسي بطلا، أو أجعل من نفسي سلطة احتكارية لخطاب الاصلاح. المطلوب هو المساهمة الممكنة لا الاحتكار الممتنع أصلا (عمليا، يصبح هذا النوع من الخطاب، مع الوقت، مثارا للسخرية وموضوعا فرجويا ليس إلا. وما أكثر الفرجة والعارضين والمتفرجين على منصات يوتيوب!!!). والمساهمة في هدف كبير كإصلاح مدينة لا ولن تكون إلا جزئية، لأن لا أحد يملك عصا سحرية. فكل ما هو مطلوب هو أن تساهم أنت، ويساهم هو، ونساهم نحن، ويساهموا هم، إلى أن تتداخل المجهودات، الفردية والجماعية، فتسجل تراكما إيجابيا وبنائيا وتحويليا، فيُحْدِث كل ذلك حركية إصلاحية ذات مسار تطوري غير مهدد بالانتكاس.

العمل المدني التراكمي و الواعي والمتعدد والمنفتح هو أحد مسالك انعتاق المدينة من دوامة مشاكلها وهو يحتاج انخراط الجميع، بالعمل والانجاز، وليس الكلام المتراكم فوق الهباء.

واجبنا، واجب كل واحد منا، إذا كنا نريد فعلا الخير لهذه المدينة أن ننخرط جميعا في مشروع «استعادة الثقة في الذات الجماعية» بهدف إحياء ثقافة العمل والانجاز. فهذا ركن معنوي أساس لتحقيق إنجازات عملية.

لنقلل من الكلام وحي على العمل!

 -------------------------

*الصورة لـلفوتوغراف: محمد أخبشان (ساحة المسيرة - الخميسات)

 


 

 


تعليقات