فؤاد بلحسن - كيف ولماذا تَشيخ مدينة الخميسات؟! ثم ماذا بعد؟! / مبادرة تنشيط العمل المدني, 23

 



* عن مصير "المدينة القروية" وزيف عبارة "الأمور تعود إلى طبيعتها" *

 

نخرج من ظَرفِ تشديد إجراءات الطوارئ الصحية إلى ظرفٍ أقل تشددا؛ الأمر الذي حذَف مزيدا من القيود على حياة الساكنة وحفَّفَ بعض الضغوط على الاقتصاد المحلي. غير أن التخفيف لا يعود بنا إلى حياة طبيعية؛ لأن ما هو طبيعي في حياتنا هو اللاطبيعي. بل ولا يخفى أن وطأة/أضرار الجائحة ستبقى معنا لسنة أخرى أو أكثر. فإذن هذا التخفيف لا يعود بنا إلى ما هو أفضل، بل يعود بنا، تدريجيا، إلى ما كنا نعيش فيه من بؤس عام. فإنسان المدينة ليس في حاجة إلى مأوى ومأكل فحسب، بل يحتاج أيضا إلى الكرامة وإلى فضاءات للعيش تليق بإنسانيته.

 

لا شيء يعود إلى طبيعته في مدينتنا. الأمور تسير إلى الأسوأ، في خط تقهقري، على صعيد الشأن الحزبي والعمل المدني وفضاءات العيش المشترك والخدمات العمومية وفرص العمل وواقع الشباب والحياة الثقافية. أن تعود المدينة إلى طبيعتها يعني أن يجد ساكنتها ذواتهم في مدينتهم، وأن تجد المدينة تطورها على يد ساكنتها، بينما لا هذا ولا ذاك حاصل حالا أو مضمونُ الحصول مآلا. وبعبارة أخرى، فإن هذا التخفيف يعود بالساكنة إلى نفس الدائرة السابقة: دائرة الأزمة.

"النحس"، هذا هو العنوان العريض لأزمة بنيوية تخترق كل مفاصل واقعنا العام المحلي. ففي هذه المدينة الظالم مسؤولوها، صارت القصة أعقد من مجرد أزمة في الاقتصاد أو الشغل أو الفساد أو المأوى أو الإدمان أو التعليم والتكوين أو غيرها. كل هذا موجود فعلا، لكن حقيقته تتعدى هذا الجمع للمشاكل جنبا إلى جنب بطريقة حسابية. فالأمر أصبح أعمق من ذلك بكثير، بَعد أن أمست الأزمة أزمةَ بنيةٍ عميقة تُعيد، في كل محطة كبرى، إنتاج نفسها بصورة أكثر مأسوية، فتقتل معها الأمل في المستقبل، مستقبل الأفراد والمدينة.

3 مؤشرات رئيسة عن أزمتنا البنيوية:

1.       تراجع حاد في الفعل الجماعي الموجه لخدمة المصلحة العامة: فهذه الشَّلَلِية - إن صح التعبير- أمست سِمةً شبه عامة تتقاسَمها معظم التنظيمات الحيوية. وحصيلة جُماع الفعل الجماعي تثير قلقا شديدا، في مختلف أوجهه السياسية والمدنية والثقافية. إننا بصدد أسئلة تطال ليس فعالية الفاعلين فحسب، بل ومشروعيتهم أيضا.

هذا الواقع، وجَد له انعكاسا في التوجه العام للسلوك، من خلال تكريس البعد الواحد للفعل:  وهو الفعل الفردي من أجل الفرد. فالغالب اليوم، هو السعي وراء المصلحة الشخصية [عديد مِمَّن يعتبرون أنفسهم مناضلين لا يَشذون عن هذه القاعدة (يا لِسخرية المشهد!!!)]. وحتى فكرة الانتماء إلى حزب ما، أو جمعية أو هيئة مدنية، أصبح يأخذ، في الغالب، هذا الطابع الوصولي المصلحي الفرداني.

2.      شعور عام باليأس من التغيير: وهو ناتج عن العنصر الأول، وفي نفس الوقت يُغذيه، في علاقة تبادلية هي أقرب إلى حالة من الاكتئاب الجماعي: شلل في الفعل الجماعييأس في الشعور العام. فهذا المركب يهدد، على السواء، وفي العمق، مقومات العيش المشترك من جانب، والسلامة النفسة العامة من جانب آخر.

3.      جمود في حركية الإنماء العام: وهو النتيجة الطبيعية للعاملين السابقين، وفي نفس الوقت يعيد إنتاجهما؛ عَبر استدماجهما في البُنى العميقة للثقافة والعقل العامَين: شلَلٌ في الفعل الجماعي + يأس في الشعور العام = جمود في حركية الإنماء العام. ولعل أبرز مظهر لهذا وأخطره، هو تحول حركية المدينة خلال العشرين سنة الأخيرة إلى حركة تقهقرية تجر المدينة إلى أسوأ مما كانت عليه في أكثر من مستوى: صارت المدينة أكثر بشاعة في مشهدها الحضري (فضاءات عيش غير متجددة ونقص حاد في الفضاءات الجديدة)، وصارت أكثر هشاشة من الناحية الاجتماعية (ارتفاع كبير في عدد الباعة الجائلين/ أسر عديدة أُخرجت من بيوتها بلا بدائل أو دعم كاف في أكثر من حي صفيحي/أسر وأفراد لا يعجزون عن تحمل نفقات الاستشفاء أو الدراسة أو الملبس أو المأوى )، وصارت أكثر نزوعا إلى البداوة (في عديد من زواياها وغير بعيد عن المركز، نعاين عديدَ مظاهر ترييف المدينة، بحيث يمكننا الحديث عن المدينة-القرية أو الجماعة القَرْ-مَدنية). وكل هذا يدل على وقوع انتكاسة كبيرة في الذهنية الثقافية العامة وفي نتائج أداء التنظيمات التمثيلية والسلطة العمومية (تحوُّل الفساد إلى مسألة بَدْهِية، الهبوط العام في مستوى أداء الخدمات، التعامل مع الرشوة كطقس اجتماعي عادي، التآكل التدريجي في دور التنظيمات المدنية، المناسباتية في أداء التنظيمات الحزبية، تحوُّل مؤسسات الدولة إلى ما يُشبه أجهزة لتصريف الأمور الجارية بدون أفق تنموي، تَقَمص زائف لأدوار النخبة من لدن مثقفين ومناضلين ونشطاء مُزَيَّفين،...).

وحين يصل الوضع إلى هذا المستوى، فلا يمكننا إلا أن نعلن موت المدينة رسميا وفعليا.

مدينة هذا حالها، تحتاج إلى مشروع تغيير عام، ينخرط فيه الجميع من أجل الجميع. حين تتكلس البنى العميقة وتَقمع كل إمكانية للانعتاق والتغيير، يصبح من الضروري تحريك البنى العميقة هذه نفسها، وليس أعراضَها فحسب. ستبقى مدينتنا على حالها ما لم يتم تطوير إنسانها عبر إنسانها أولا، ثم رَج مؤسساتها الحزبية والمدنية رجًّا، تَسقُط معه التمثيلية الخادعة لصوت الناس ومصالحهم، ومن ثم الدفع بالأجهزة العمومية إلى التفاعل مع الإيقاع العام الجديد هذا، الذي ستفرضه الساكنة المحلية، بأفرادها ونخبها وهيئاتها المدنية والسياسية والإعلامية.

فإذن يحتاج مشروع التغيير إلى معالجة الأزمة في أبعادها المختلفة؛ قصد تجديد حركية النسق العام ودفع جموده، وذلك على 4 مستويات:

·       الساكنة والإعلام (المشكل الثقافي)؛

·       المجتمع المدني والمجتمع السياسي (المشكل السياسي-المؤسساتي)؛

·       الاقتصاد المحلي وفرص العمل (المشكل الاقتصادي)؛

·       السلطة والنخبة الحقوقية (المشكل الحقوقي).

ليس هذا النص "للتباكي" أو للتحريض على "الثورة"؛ فلا ذرف الدموع يُجدي، ولا شأن الخميسات هو شأن الحسيمة، مثلا، حتى تسلك مسلك حِراك هذه الأخيرة؛ بل هذا النص بمثابة دعوة للانخراط في نقاش مفتوح للأزمة على أرضية محاولة فهمها الدقيق أولا، واجتراح الحلول لها تَبَعا لذلك ثانيا. وهذا النص أيضا هدفه استنهاض العزائم من أجل العمل الجماعي، والتأكيد على ضرورة التحرك العملي من أجل التمكين لدينامية التغيير. ولن يستكمل هذا الطرح أركانه، إلا بنشر نص في طور الكتابة (تحت عنوان: «مشروع استعادة الثقة في الذات الجماعية»، يتناول ويقترح بعض الأفكار وبعض مداخل الحلول والبدائل.

 

تعليقات