عام عن الانتخابات الجماعية: ما مصير المدينة وهي بين أيدي الأثرياء ومن يتطلعون إلى أن يكونوا أثرياء؟ وهل الرئيس في مأزق؟

 


 

في 8 شتنبر الماضي، نُظِّمت ثالث انتخابات جماعية في ظل دستور 2011، وأفرزت نتائجها، على مستوى مدينة الخميسات، ما أفرَزت. وحيث أن الحديث عن طريقة نسج تحالفات تشكيل المكتب الجماعي أمسى من نافل القول (شخصيا، سبق أن كتبت في الموضوع)، فإن استعادة بعض التطورات والتفاصيل التي أعقبت ذلك ومحاولة فهمها و/أو تفسيرها تملك كامل الشرعية بعد عام عن هذا التاريخ. فماذا يمكننا أن نقرأ في إفرازات العملية الانتخابية الجماعية الأخيرة؟ وماذا عن النخب وأدائها أكانت جزءا من الأغلبية أو المعارضة؟ وكيف يظهر أداء رئيس المجلس الجماعي الحالي؟

أولا: مرحلة غير مسبوقة: نخب سياسية مُهدِّدة للمصلحة العامة

* أول ملاحظة أود إثارتها في هذا الباب تتمثل في الاندثار المثير للبنية الثنائية التي تبَدَّتْ بُعَيد إعلان النتائج. فَيَومها، انقسمت اللوائح إلى كتلتين كبيرتين: كتلة حسن ميسور (الحركة الشعبية) وكتلة عبد السلام البويرماني (الأحرار). وهو ما انتهى، بحسب تطور الأمور، إلى تشكيل مِيسور لجبهة الأغلبية المسيِّرة تحت رئاسته، والبويرماني للجبهة المعارضة. لكن السؤال الآن هو: أين هو هذا التكتل السياسي؟ أين كتلة المعارضة المفترَضة؟ بل أين البويرماني نفسه؟ وهل أن مكونات الأغلبية هي من يسير الأمور أم أن رئيس المجلس أمسى يتحكم في كامل خيوط اللعبة، كما فعل سابقه عبد الحميد بلفيل، أم أن قواعد اللعبة دخلت مرحلة اضطراب حقيقي؟ هذه أسئلة يمتلك المتتبعون بعض أجوبتها، بينما يحتاج بعضها إلى مزيد من الوقت والبحث.

* لقد كشف المشهد السياسي خلال المحطة الانتخابية وبعدها عن مجموعة من المعالم الجديدة على مستويات طبيعة الطيف السياسي داخل المجلس وتوزيع قوته وحجم إعاقته، ولعل أبرزها التشظي المثير للقلق الذي عكسته القوى السياسية الـمُمثَّـلة داخل هذا المجلس [21 لائحة حزبية ومستقلة (!!!)]، تتراوح قوة كل لائحة منها بين 3 مقاعد ومقعد واحد (!!!)). وحتى نمسك بعض خيوط هذا المشهد، دعونا ننطلق من التصنيف التالي للهوية السياسية والاقتصادية للمنتخَبين الذين تنافسوا على تمثلين الساكنة داخل المجلس،  وهو تصنيف يستند إلى معاينة المنتَخبين قُبَيل وأثناء وبعد العملية الانتخابية:

صنف 1: المنتخَبون الكبار: يتشكلون من رجال المال والأعمال، والذين تُفَرقهم المصالح ويجمعهم المخزن في مشروع محاربة العدالة والتنمية والقوى الإصلاحية. فأولئك يتحركون، في الغالب، داخل منطقة تتموقع خارج مجال الرقابة الحثيثة والصارمة لأجهزة الدولة الرقابية والزجرية والاستخباراتية. وهم يخوضون غمار العملية الانتخابية ليُمثلوا مصالح خاصة بدرجة أساس، وفق منطق "دعه يسرق ويربح، ما دام يزاحم القوى الإصلاحية!".

صنف 2: المنتخَبون السماسرة: يتشكلون من مجموعة من المنتخَبين الذين خَبِروا دهاليز السلطة والمال والسياسة والمجتمع المدني في المدينة. وهم في الغالب إما مستشارون سابقين أو مقربون من السلطة أو  صراصير المجتمع المدني[1]. تجمعهم الرغبة في تحقيق الثراء السريع ويُفرقهم كرههم لبعضهم البعض (لأنهم يَجرون وراء الكعكة نفسها!). حيث يرغب هؤلاء في أخذ موقع متقدم في نتائج الانتخابات ليُحسنوا موقفهم التفاوضي لحسابهم الخاص، وفق منطق: "أنا معك وسأبقى كذلك بقدر ما تدفع!".

صنف 3: المنتخَبون الإصلاحيون: ويتشكلون من مجموعة من الناخبين المنتمين للقوى الديمقراطية والإصلاحية، والذين مازالوا يُلَبُّون الحد الأدنى من قواعد العمل السياسي الشريف؛ عبر حرصهم على القيام بواجباتهم في مجالات التأطير السياسي وتكريس الوعي بالمواطنة الحقيقية والدعاية السياسية المسؤولة والحملات الانتخابية النظيفة. وهم، أيضا، يتوفرون على تقييم جيد للوضع السياسي والتنموي وتَحذوهم رغبة حقيقية لخدمة المدينة والساكنة بنزاهة. وهم يشكلون اليوم أقلية صغيرة جدا.

صنف 4: المنتخَبون الجُدد: ويتشكلون من مجموعة من الهواة والمغامرين: بعضهم يَستسهل العمل السياسي فيعتقد أن دخول الملعب في آخر دقيقة يجعل منه سياسيا ذي شأن، بعضهم مجرد بيدق صغير أو أرنب سباق في هذه اللائحة الانتخابية أو تلك، بعضهم جرى التلاعب بعقله أو دغدغة مشاعره من لَدُن وكيل هذه اللائحة أو تلك، بعضهم وُعد بتمكينه من خدمات أو فرص عمل أو غيرها من الامتيازات الصغيرة، بعضهم يختبر أرضية العمل السياسي وعينه على الانتخابات المقبلة، بعضهم يعتقد أن العملية الانتخابية عبارة عن لعب ولهو و"فراجة" فينخرط في "الـمُوسْمْ السياسي" وينط من هنا إلى هناك كالبهلوان، إلخ.

وإذا حاولنا تقديم صورة أكثر دراماتيكية عن طبيعة هؤلاء المنتخبين (خاصة الصنف 1 والصنف 2 وجزء من الصنف 4)، يمكننا أن ندرجهم ضمن مجموعتين كبيرتين بارزتين: مجموعة الأثرياء ومجموعة من يتطلعون إلى الثراء. فلأول مرة في التاريخ السياسي للمدينة، يمسي هذا الفرز واضحا أكثر. ولك أن تنظر إلى أغلب من يوجد على رأس اللوائح الفائزة بمقاعد والخاسرة، سواء بسواء، تعي ما أقول. ولك في ما يلي المزيد.

* تدفعنا خريطة النخب السياسية هذه، للإشارة إلى ذاك العنصر الذي بات يأخذ مساحة أوسع في تحديد قواعد اللعبة السياسية بالمدينة: المال. وهذه سابقة تشكل خطرا كبيرا على القرار العمومي المحلي وعلى مستقبل المدينة (للناخب ثمن وللمستشار الفائز ثمن أيضا!!!)[2]. وفي الواقع، يؤشر توسع المال بهذا الشكل غير المسبوق في تاريخ المدينة على مسألتين أساسيتين:

1/ تحول الفساد إلى ثقافة: نحن نَقبل تقديم الرشى وتلقيها لأنها أصبحت جزءا من قواعد عيشنا؛

2/ عدم تجذر الخطاب الشبابي المناهض للرشوة في وعينا العام. إذ أن هذا النوع من الاختلالات الاجتماعية لا يتوقف بمجرد عرض منشورات الإدانة والتحسيس في العالم الافتراضي أو عبر الضغط على أزرار الإعجاب.

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تخلي المؤسسات الحزبية والمدنية عن أدوارها في تأطير وتكوين وتوجيه  الناس والشباب. فاليوم، نحصد ما زرعنا بالأمس؛ فكل مساحة انسحبت منها القوى الحية الإصلاحية احتلتها قوى المال والفساد والقوى الداعمة للسلطوية. خاصة أن إرادة تمييع المشهد وخلط الأوراق وتكريس التمثيلية المزيفة لإرادة الناس أقوى من إرادة إنفاذ القانون وتحرير الفضاء العام وتكوين نخبة وطنية تحمل مشاريع الصالح العام.

* وضمن هذا المشهد، عبَّر وكلاء اللوائح عن درجة متدنية في التفاوض والخطابة السياسية والقدرة عل الإقناع بشأن ما يعتبرونه مصلحة المدينة وما هم مُقدمون عليه، سواء فيما يخص التحالفات أو الرؤى الإصلاحية ذات العلاقة بتدبير المدينة. وعلى سبيل المثال، عبَّر وكيل لائحة حزب الديمقراطيين الجدد[3]، بلا مواربة، عن أطروحة "الدفاع عن الشيطان"؛ باعتبار ذلك -من وجهة نظره- حلا لمأزق المدينة. فلتبرير اختياره التحالف مع البويرماني حينها -وهو المعروف بنقده اللاذع له- صرَّح بالقول "كلنا تَنْغْلطو"(!) والآن "مصلحة المدينة أولا"، وذلك في محاولة منه -على ما يبدو- لتبييض تاريخ عدوه السابق (!). بينما جعل الممثِّلان الفائزان المنتميان للائحة حزب الإصلاح والتنمية[4] (المنتسبان لمجموعة نبض الخميسات) من نفسهما ومن مجموعتهما أضحوكة حين استسلما سريعا على أكثر من صعيد: مثلا، استسلما مبكرا جدا لوكيل لائحة الحركة الشعبية (الرئيس الحالي)، واستسلما لإغراء توزيع "المناصب" داخل المكتب المسير قبل تحديد البرامج، وجعلا من اختفائهما مسرحية تتُابَع على المباشر في مواقع التواصل الاجتماعي بأشد التعليقات سخرية. كما أن قادة مجموعة النبض قدَّموا بدورهم عرضا طفوليا في العمل السياسي حين جعلوا نزاعهم فيما بينهم قُبيل وغداة إعلان النتائج باكورةً سيئةً لحصيلة أدائهم السياسي في المستقبل كفاعل ممثَّل داخل المجلس بمقعدين (!).

* مثلت، أيضا، المحطة الانتخابية لسنة 2021 نقلة نوعية في طبيعة التواصل السياسي، حيث سُجل انزياح كبير نحو العالم الرقمي/الافتراضي. فقد ظهرت شخصيات (بعضها جديد على الساحة وبعضها اختار العودة من جديد) ومجموعات افتراضية على الأنترنت (فايسبوك بدرجة خاصة)، عملت على خلق نقاشات طويلة عريضة، مثمرة حينا وعبثية حينا آخر، تمحورت حول قضايا المجتمع المدني والتنمية المحلية. وحين اقتربت الانتخابات أظهرت هذه الشخصيات ومديرو تلك المجموعات رغبتهم في الترشح للانتخابات ضمن لوائح جديدة أو من داخل أحزاب قائمة [أخص بالذكر: مراد بوعلام، نبيل أعبار، نور الدين خرماز، توفيق بوشعرة، خالد أورحو،...]. واستمر الحضور المكثف لتلك المجموعات خلال الحملات الدعائية السياسية للانتخابات، ووصلت، فيما بينها، إلى حد التراشق العبثي بالكلام والبذاءات في أكثر من مناسبة. لكنها مع ذلك، قامت بتعبئة سياسية للشارع غير مسبوقة. والسؤال الذي يُطرح هنا: هل أن هذه التعبئة ستتبلور في إنجازات تنموية وأداء مقنع من لدن تلك الشخصيات؟ وهذا السؤال مهم جدا؛ لأنه يفتح الباب للإجابة على سؤال لا يقل أهمية: هل سيحتفظ العالم الافتراضي بقدرته هذه على التعبئة؟. فهذا مشروط بذاك. في المبدأ (أو كفرضية)، ستحتفظ مجموعات وصفحات الشبكات الاجتماعية الرقمية بحيوتها وقدرتها على التعبئة السياسية حين تبرهن بالنسبة لمتتبعيها على أنها فعلا تُسهم في تحقيق التغيير المنشود. وإلا فسيكون مصيرها هو نفس مصير الدعاية السياسية التقليدية: التخلي.

* وفي الوقت الذي يتنافس أولئك الفاعلون واللاعبون ويتلاسنون على مستوى العالم الافتراضي، وهم في الأغلب جددٌ وهواة، ثَمةَ فاعل كبير يضع مدينة الخميسات على مرمى من عينَيه: عبد الصمد عرشان، رئيس الحركة الديمقراطية الاجتماعية، والبرلماني ورئيس مجلس جماعة تيفلت. فقبل الانتخابات بأشهر، بدأت يده تمتد إلى شؤون المدينة بأكثر من طريقة وعبر أكثر من وسيط[5]. باعتباره رئيس حزب سياسي، يسعى عرشان أن يُمدد حضوره ويوسع نفوذه، يُمنةً ويسرة. وهذا حقه. غير أن ارتكازه على مدينة قريبة من مدينة الخميسات- وهي مدينة تيفلت- يجعل منه ليس منافسا سياسيا، بل وخصما تنمويا أيضا- إن صح التعبير. ودعني أكون أوضح وأكثر دقة:

يمكن أن نقرأ تَمدُّد نفوذ وسلطة عبد الصمد عرشان في مدينة الخميسات بثلاث وجهات نظر:

وجهة نظر 1: ترى في تمدده تهديدا لمصالح المدينة. حيث يُنظر لهذا التمدد في الخميسات، وبالتالي في إقليم الخميسات ككل، مدخلا لتكريس قوة الرجل على مستوى مدينة تيفلت. أي أنه كلما زاد قوة ونفوذا وتمددا، إلا وزاد ترافعه وسعيه لخدمة مركز قوته: تيفلت؛ من خلال استقطاب الاستثمارات والتجهيزات والمشاريع التنموية الخاصة بالإقليم والممولة من طرف القطاعات الوزارية ومجلس جهة الرباط-سلا-القنيطرة ومجلس إقليم الخميسات؛ وذلك تمهيدا لجعل تيفلت قطبا تنمويا وسياسيا في آن.

وجهة نظر 2: ترى في تمدده من خلال حزبه ورجال حزبه ووسطائه داخل الخميسات مكسبا لهذه الأخيرة. إذ أن وصول هؤلاء إلى مركز القرار، سيدفع الرجل إلى توظيف نفوذه على مستوى الدولة والجهة لصالح الخميسات. حيث تصير، في هذه الحالة، مدينة الخميسات جزءا من مشروعه السياسي وليست وسيلة ركوب فحسب.

وجهة نظر 3: وهي وجهة نظر أقل وفاء للمدينة الخميسات، لكنها تحمل بعضا من الوجاهة والجدوى. وهي ترى أن توسع نفوذ الرجل وجلبه لاستثمارات ومشاريع كبرى لمدينة تيفلت سيعود بالنفع لمدينة الخميسات لا محالة. فما دامت المدينة تتراجع تنمويا وتشهد غياب من يدافع عن مصالحها، فمن الجيد، على الأقل، أن يحقق محيطها -كتيفلت وسيدي علال البحراوي- بعضا من النمو بما يعود على أبناء الخميسات بالمنفعة (توفير فرص عمل قريبة من الخميسات بدلا من طنجة أو القنيطرة أو غيرهما). فوجهة النظر هذه، تقبل أن تتحول الخميسات من مركز إلى ملحق، ما دام في الأمر عائد تنموي على الجميع.

هذه وجهات نظر تتقاطع حينا وتتناقض حينا آخر. وعبد الصمد عرشان، وفق كل المؤشرات على الأرض، يتقدم، ولا ندري أي من وجهات النظر هذه سيصير واقعا. وإذا لاحظنا ما جرى قبيل وخلال الانتخابات الماضية، سنرى أن عرشان وضع رهانه على مجموعة من الشخصيات بالمدينة، وانتهى إلى تزكية الحسين الجامعي على رأس لائحة الحزب المحلية بالخميسات. فهل كان رهانه رابحا؟ الظاهر، حتى الآن، أنه ربح بقدر ما خسِر: حصلت اللائحة على مقدين، وهي الآن ممثَّلة داخل المكتب المسير، وهو ما يمكن عرشان من وضع عينه على كل مجريات الأمور وتطورات الأوضاع. لكن رهانه على الجامعي رهان على رئيس سابق للمجلس الجماعي بالخميسات، شهدت المدينة في عهده بداية تدهورها نحو الهاوية، كما أنه ما عاد يملك دعما شعبيا أو شبابيا مهما. فهل سيستمر رهان عرشان عليه؟ وكيف سيترجم عرشان تدخله في شؤون المدينة مستقبلا؟ هذا خيط تَجْدُر متابعته إلى نهايته.

* أما الثابت الذي يتعين تسجيله ضمن مختلف هذه السياقات المحلية المتحركة، هو أن البويرماني، السياسي والمستثمر، أمسى معطى صلبا في اللعبة السياسية الترابية. لقد كان الرجل على وشك أن يستعيد مقعد الرئاسة، وتمكن، بطريقته (!(، من جمع طيف واسع من الحلفاء، بما فيهم عدوه السابق مراد بوعلام (!)[6]، ثم تمكن، بدعم من حزبه، الأحرار، المقرَّب من السلطة، من انتزاع مقعد في مجلس النواب. وحتى إذا كان غيابه عن حضور مداولات المجلس حقيقة، فإن حَركِـــيَّته ورهاناته على مستوى المدينة ما تزال تحتاج إلى مزيد من المتابعة لفهمها- فهي قائمة وتسري عميقا في الشبكات المحلية للأعمال والاستثمار ، كما أن علاقاته الجيدة مع أكثر من صديق وحليف قديم- كعبد الحميد بلفيل مثلا، مؤسس لائحة العداء (ذات المقعدين حاليا) وكذا علاقاته مع فاعلين آخرين في صفوف المعارضة وطريقته في التفاوض والتشبيك-  من شأنها إثارة قلق الرئيس الحالي.

ثانيا: هل الرئيس في مأزق؟

اعتقد الرئيس، حسن ميسور، أنه، بتشكيله للأغلبية، سيقود تجربة مريحة. لكنه شكَّلها فعلاً وما ارتاح!

حسب ما يبدو من خلال متابعة المشهد والنقاشات الموازية له، هنالك وجهتَا نظر بخصوص تقييم أداء الرجل بعد عام من توليه الرئاسة. التوجه الأول، يعتبر أن الرئيس يسير في الطريق الصحيح. بينما يعتبر التوجه الثاني أن الرئيس في مأزق.

لنرى المعطيات في محاولة لتقديم بعض التحليلات.

* بعد إفراز النتائج، دخل الرئيس سلسلة مفاوضات عسيرة، اضطرَّتْه لتقديم تنازلات ووعود (وربما أشياء أخرى!) لشُركائه في الأغلبية [الاتحاد الدستوري، الشورى والاستقلال، الإصلاح والتنمية، إلخ). وانتَظَر، بالمقابل، تكتلهم حوله ودعمهم له. ثم، بدأ مسلسل التدبير...

وعلى عكس الرئيس الأسبق، ، عبد الحميد بلفيل، تمكن الحالي من تقديم نفسه كرئيس قريب من المجتمع المدني وكرجل حوار وإنصات يحمل معه بذور النجاح؛ حيث أجرى مجموعة من المشاورات والحوارات مع هيئات المجتمع المدني، وأعطى وعودا بالتدخل لمعالجة مجموعة من الملفات العالقة وتحسين شروط عيش الساكنة (العمل على تنشيط الواقع الاقتصادي والتشغيل، إصلاح حال المناطق الخضراء، إعادة هيكلة غابة المقاومة، المساهمة في التعجيل بهيكلة أحياء الصفيح التي جرى هدمها، إحياء وإصلاح وتحسين تدبير بعض المرافق العمومية كالمسبح البلدي والسوق الأسبوعي وغيرها،...)، وحاول استثمار الصورة عبر الإعلام لتسويق تحركاته وحضوره ومشاركاته والمجهودات التي يقوم بها، فأقنع بعض الفئات بأنه، في عهده، ستُسجِّل المدينة عوائد تنموية في المنظور القريب.

وبعد عام من مسلسل التدبير، الظاهر أن أقصى ما استطاعه الرجل هو تشكيل أغلبية متواضعة من حيث حجمها، ضعيفة من حيث قوتها، هجينة من حيث تركيبتها، مُبَلقنة من حيث توجهاتها، غير متجانسة من حيث انتمائها الطبقي. وضمن هذا الإطار، بدأ البعض يتوقع حصيلتها أو سوء عاقبتها، كما أن البعض الآخر أبدى توجسه من قدراتها [علَّق أحد المتتبعين الجيدين لأداء المكتب المسير قائلا "تْلْفات ليهوم الجرية!"[7]. وفي المقلب الآخر، ثمة من يريد أن يستثمر في هشاشة الأغلبية المذكورة (هناك معلومات تشير إلى تحركات بعض الأطراف السياسية تمهيدا لإجراء انقلاب قانوني ضد الرئيس عبر تشكيل أغلبية جديدة [تتذكرون أن هذا النوع من المحاولات جرى أيضا في عهد الرئيس الأسبق، وباء بالفشل[8]).

أما على صعيد الإنجازات الميدانية، ما تزال الحصيلة تُراوح مكانها – مع استثناءات طفيفة على صعيد بعض المناطق الخضراء حصرا. فقد تفاقم تدهور بعض المرافق والأوضاع أو تم تكريس تعطيلها [الإنارة العمومية، المسبح البلدي، المحطة الطرقية، احتلال الملك العمومي [قبل الحملة الأخيرة التي انطلقت خلال الأسبوع الماضي،...]. كما أن الترافع أو الوعد بالترافع بشأن أهم 3 ملفات استأثرت باهتمام الرأي العام، وهي استكمال بناء المستشفى الإقليمي الجديد وبناء جامعة بالمدينة وإنهاء عمليات هيكلة الأحياء العشوائية المهدَّمة في إطار البرنامج الاستعجالي لإعادة الإسكان[9] (وهذا ملف تتحمل السلطة الترابية، في شخص العامل، المسؤولية الأكبر عنه[10])، لم يحقق الكثير مما يستحق الذكر. فباستثناء التحركات الأولى للرئيس على هذا الصعيد عَقِب نجاحه، يبدو أن حماسَه انطفأ سريعا.

وعوض أن يجري طرح البرامج والعمل على تنزيلها وإطلاق سلسلة لقاءات واتصالات مع القطاعات الوزارية ومسؤولي الجماعات الترابية الأعلى والمستثمرين؛ قصد معالجة بعض الملفات وتحريك عجلة الاقتصاد وإرساء بنية تحتية أكثر استقطابا للمشاريع؛ مازال الرئيس يتعثر في إدارة بيته الداخلي، مع مستشارين حلفاء يبحثون عن مصالحهم (معلومات تقول أن أحدهم يرغب في الحصول على تسهيلات بشأن تهيئة مساحة أرضية انتقلت إليه عن طريق الوراثة، وبعضهم يرغب في الحصول على سندات طلب[11]، والبعض يبحث عن امتيازات أخرى،...). والمعلومات أيضا متضاربة حول من تسلم ومن لم يتسلم مبالغ مالية لِقاء التوقيع بلا شقشقة لسان على المقررات التي يمكن أن تصدر عن المجلس (من الصعب الحصول على معلومات دقيقة بهذا الشأن، أو تقدير حجم المبالغ!). وهذا الهرج والمرج الدائر بين أعضاء الأغلبية وخلف الكواليس وعلى أكثر من قضية و"كعكة"، هو الذي دفع أحد المستشارين المخضرمين إلى استنكار دخول ما أسماهم "البراهش"[12] إلى المكتب المسير للجماعة.

* والحال هذا، يبدو أن المعارضة، هي الأخرى، ما تزال بعيدة عما يمكن أن نسميه بحكومة الظل المحلية. فهي الأُخرى تظل مشتتة عضويا، ولا تحمل برنامجا أو حتى ميثاق عمل مشترك. بعض مستشاريها يغيب نهائيا أو غالبا عن دورات ومداولات ولجان المجلس، بعضها يُطل على الناس بصورة مناسباتية على شبكات التواصل الاجتماعي في خلط واضح بين عمل المعارضة وعمل النشطاء السياسيين، بعضها يبدو أنه يستثمر داخل لعبة الأغلبية من خلال القفز بين الحَبلين؛ فلا هو معارض حقيقة ولا هو جزء من الأغلبية، بلْ بَين بين: يندد على الشبكة الفايسبوكية موجها رسائل للخارج وفي نفس الوقت يُنسق مع الرئيس في الداخل ويروج له بدعاية ذكية كما لو أن هنالك تواطئات غير مكشوفة غايتها التعاون غير المعلن[13]، وبعضها يتخذ من موقع المعارضة فرصة للتدريب على القيادة والتدبير استعدادا للانتخابات المقبلة، وأصناف أخرى.

الخلاصة:

في السياسة والتدبير، الأهم من انطباعات الأفراد، هو طبيعة الأداء والنتائج على الأرض ونظافة اليد. مَن يثقون في الرئيس كشخص- وهذا شأنهم- يجب أن يتنبهوا أن الأمر لا يتعلق بنوايا الشخص، وإنما بأدائه ورهاناته ونواياه غير المعلنة. نحن بصدد رئيس ما زال أداءه ضعيفا وتحوم حوله أغلبية هشة ونخبة لا يمكن الوثوق بها. إن هذا الاستثمار في الصورة، والذي يُظهر أن الرئيس حاضرٌ هنا أو هناك، لن يُفيد في تغطية العجز الواضح في الأداء، ولن يُغطي الثغرات الكبيرة التي يرصدها المواطن على الأرض. فكاريزما الصورة كاريزما مغشوشة، لأن الـمَحَك هو حلحلة الملفات وتحسين مجريات المعيش وتجويد شروط عيش الساكنة. فعلى أرض الواقع، لا يوجد شيء اسمه "التدبير بالسيلفي"!

هذا التحالف العضوي أو الموضوعي بين الأثرياء ومن يتطلعون إلى الثراء، يدفع القرار المحلي نحو مزيد من الاحتكار من لدن نخبة المال والأعمال. والذين، في النهاية، جاؤوا إلى السياسة لتكريس مصالحهم الخاصة وبحثا عن مصالح جديدة (الحصول على رخص، توقيع صفقات وسندات طلب، التقرب من دائرة السلطة والنفوذ، التوسط غير المجاني بين المواطن وأصحاب القرار، السبق في الحصول على المعلومة، نيل الامتيازات،..). وكل هذا من شأنه تكريس الفوارق الاجتماعية وتقوية ثقافة الاغتناء غير المشروع والسعي الدؤوب نحو المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة المحلية.

وضمن هذا الإطار العام، يظهر أن المعارضة ما تزال غير واعية بدورها كامل الوعي، ولا هي تؤدي وظيفتها على أكمل وجه. ما تزال المناسباتية والبحث عن فرص والمشاكسات الفايسبوكية هي الغالبة، بدل التأطير السياسي للشباب والساكنة في الميدان والاشتغال على ملفات وتنوير الرأي العام بصورة دورية حول مجريات الأمور داخل المجلس والمدينة[14]، وخلق فعاليات سياسية محلية، وربط الاتصال مع الصحافة قصد تسخين الملفات ودفعها للتداول في الفضاء العام. فأن تسمع مستشارا معارضا يطلب من الصحافة أن تقوم بما يُفترض أن يقوم به هو، يثير الاستغراب وربما الضحك، بل والشكوك في قدرات المعارضة ومدى الفعالية الذي يمكن أن تصله.

إذن، ومجددا، لنُسجل هذا العام في خانة السلبي!

 

15 أكتوبر 2022



[1] - دعني أسجل لطيفة هنا: حين نحتت مصطلح الصراصير، والذي أمسى دارجا على الألسن- وهو يعني أولئك الناشطين المدنيين ممَّن يتكلمون باسم الشعب لسرقة الشعب- لم يخطر ببالي يوما أنه سيأتي يوم يستعمله الصراصير أنفسهم لوصف صراصير آخرين يناوئونهم. شر البلية ما يُضحك!. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يكشف تشكيل بعضهم للوائح انتخابية عن تطور في أدائهم العام، حيث يقفز الآن من المدني إلى السياسي. وهذا موضوع آخر.

[2] - بخصوص الناخبين الصغار، تؤكد المعلومات المتداولة على نطاق واسع أن مقابل الصوت الواحد بلغ بين 100 درهم و 500 درهم. وقد دخل المدمنون والعاهرات على الخط بصورة كبيرة خلال هذه الاستحقاقات (!)، بينما فضح وكلاء اللوائح ومرشحوهم بعضهم البعض، وصرحوا بأن ثمن المستشار بلغ تقديم رشى بعشرات آلاف الدراهم و/أو تمليك شقق والوعد بامتيازات مختلفة.

[3] - بوعلام.

[4] - خرماز

[5] - أخبرتني سيدة أنها حلت مشكل انعدام الإنارة أما بيتها بتدخل غير مباشرة من عرشان، بعد ان طرقت عديد الأبواب في الخميسات دون جدوى!!!

[6] - فور إعلان النتائج وانطلاق عملية التفاوض لتشكيل الأغلبية، تناسى وكيلا لائحة الديمقراطيين الجدد (بوعلام)، كل السردية التي بنا عليها جزءا من مسيرته كمعارض، وهي سردية "محاربة لوبي العقار، وفي مقدمتهم البويرماني، وشرع يمارس دعاية لفائدة هذا الأخير بل وختم له بصك مغفرة "عفى الله عما سلف"!!! قال أحدهم: سبحان المال مبدل الأحوال ! قلت: إذا لم تستح فقل ما شئت.

[7] - ثمة معطيات تتحدث عن أن هشاشة أغلبية الرئيس تفاقمت، إلى درجة أنه بات يجد صعوبة في تمرير بعض القرارات، بل ويتجنب عرض بعضها في الدورات مخافة أن يطالها الرفض فينكشف ضعفه.

[8] - المعلومات المتوفرة عندي تقول أن الرئيس الأسبق، بلفيل، يقود هذه التحركات، مع البويرماني، الرئيس السابق والخصم الحالي لحسن ميسور.

[9] - وأهمها: أحياء أحفور المعطي، السعادة، دوار الشيخ، لالة رحمة، ضاية نزهة.

[10] - هناك شبه إجماع، لدى الرأي العام والنخبة السياسية، موالاة ومعارضة، سواء أثناء ولاية المجلس السابق أوالحالي، أن العامل، .... قرطاح، ظل دوره ضعيفا جدا، ولم يتحرك لحل مجموعة من الملفات المهمة، وعلى رأسها، إتمام البرنامج الاستعجالي للإسكان الخاص بساكنة الأحياء العشوائية المهدمة والتي ظلت بدون استفادة وبعيدة عن بيوتها.

[11] - يتردد الحديث عن حصول المستشار أحمد بلغازي على سندات طلب لاقتناء لوازم المكتب لفائدة المجلس الجماعي نفسه (!). ولم أتأكد من مصدر آخر عن مدى صحة هذه المعلومة. ولا أدري أيضا ما إذا كان قد حصل على هذه الطلبيات بصورة مباشرة أو عن طريق مقاولة وسيطة.

[12] - معلومات من مصدر وحيد، تحتاج لى أن تُعَضَّد بشهادات أخرى، تفيد أن المستشار المنصوري هو من فاه بهذا الكلام في وجه الرئيس، قائلا: "دخلتي علينا البراهش".

[13] - وهذا الصنف الأخير من المعارضة ينطبق إلى حد بعيد على وكيل لائحة مدافعات ومدافعين، خالد أورحو (لائحة مستقلة، رمز الكرسي).

[14] - بعض اللوائح لا تملك حتى صفحة تفاعلية للتفاعل وتنوير الرأي العام، وبعضها أهملها بُعيد انتهاء الانتخابات ليعيد التركيز على وكيل اللائحة كما لو أنه هو اللائحة واللائحة هو (ثقافة الزعيم).

 

تعليقات