الشاعر والمترجم رشيد وحتي: توقيعات وإصدارات وتألق (كلمة-شهادة)


  

بمناسبة توقيع رشيد وحتي لثلاث من آخر مؤلفاته الترجمية خلال فعاليات المعرض الدولي للكتاب في دورته 28 بالرباط، وكذا إصدار دار النشر «كريسطال»، التي يشرف عليها، مجموعة من المؤلفات الجديدة لشعراء ومترجِمين مميزين، أنشر، لأوَّل مرة  وبعد تصرف طفيف، الكلمةَ التي سبق أن ألقَيتُ بمناسبة تتويجه بـ «جائزة خديم الثقافة والكتاب» في دورتها الخامسة-2022.

فبتاريخ 10 يناير 2023، قرَّر نادي سحر الكتب، بالإجماع، اختيار الشاعر والمترجم رشيد وحتي فائزا بالدورة الخامسة من الجائزة؛ وذلك تقديرا واعترافا بإسهامه في إغناء المشهد الثقافي المغربي والمغاربي والعربي. نحن بصدد قامة ثقافية بحق، استطاعت أن تضع علامتها المميـَّزة والمميِّـزة على خريطة مشهد ثقافي ممتد جغرافيا من المغرب إلى الأردن. لقد خطَّ وحتي طريقه عبر مشوارِ كَدْحٍ طويل من البحث والمطالعة والتجريب والسفر بين اللغات والثقافات والأفكار والحِقَب التاريخية، قابِسا ومقتبِسا، قارئا وباحثا، مترجِما وناقدا.

*

حَتَّـى وهوَ يُحِلُّ نفسه، تدريجيا ونسبيا، من ارتباطاته السياسية واصطفافاته الأيديولوجية، قَصْد الانكباب على مشروعه الثقافي، ما زال وحتي يُبهرنا بحجم متابعته للمُجْريات الوطنية والإقليمية والعالمية، ومستوى وَعْيِه بعمق الاشكالات المطروحة. فما زال يُقدِّم، بين الفينة والأخرى، آراء معقولة وذكية في عديد من هذه الملفات المعقدة والمتشابكة.

لكن رشيد وَحْتي، قبل أي شيء وبعد أي شيء، يبقى رجلَ أدب. وأي شيء أعز إلى قلب الأديب من مُداعبة اللغة وربما محاولة تملكها، بل وتطويعها وتطويرها.  

 من الأدب التراثي إلى الحديث فالمعاصر، عاقَر واحْتَوى طَيفا واسعا من تَجارب الأمم الأدبية؛ مُتَنقلا بين مُدارسة أسسها النظرية وأثرها الإبداعي وسِيَـر كُتابها.

وهذه المسيرة الـمُـبـهرة، في دروب الإبداع والترجمة، التأليف والصحافة الثقافية، ما فَتِئت تتصاعد وتتكثف وتترقى أكثر خلال سنة 2022، وهو ما شهِدَ عليه الإصدار الـمَلحمي لعديد من النصوص الإبداعية والترجَمات الهامة لمجموعة من الأعمال الشعرية والنثرية التي عكسَتْ وعبَّرت، بوضوح لا لُبس فيه، عن حالة فريدة من الاجتهاد والأصالة، وعَن خلفيةٍ فكرية واعية بقضايا اللغة والترجمة والتواصل الثقافي.

ومن يعرف رشيد وحتي مِن قرب سوف لن يلتفت لِـمن يَدَّعي أو يعتقد أن هذه الإصدارات الكثيرة المتتابعة سنتي 2022 و2023 تَنِم عن استعجال ورغبة في النشر تزيد عن الحاجة إلى التروي، إذ الحقيقة غير ذلك. فرُفوف وحاسُوب الرجل تحتوي أضعاف ما صدَر حتى الآن، ولربما ما أصدره اليوم قد كُتب سنين مضتْ، غير أن مَسلكيات النشر والعلاقة مع أغلبية دُور النشر والناشرين أمست أكثر فأكثر قَرَفا واستغلالا مما قد يتحَمَّله أي كاتبٍ يَحترم، ولو في الحد الأدنى، نفسه وقُراءَه ووظيفةَ الكاتب. وكم كان رشيد وحتي على حق حين قال ذات تغريدة: «أنا بصدد البحث عن ناشر نصف لص»، بما يوحي أن المجال أمسى غَرِقاً بالفضيحة وبسماسرة الاحتيال الثقافي، عِوضاً عن الالتزام الثقافي والـمِهَنيين والمثقفين.

*

يصعب حَصْر مُنجَز الرجل؛ إذ تَتراكم العطاءات في هذا المسار: التأليف، الترجمة، البحث العلمي، المقالات، تأسيس وإطلاق المشاريع الثقافية، إعداد والإشراف على الملفات الأدبية في الصحافة الثقافية، وغيرها.

وحَتَّـى وإن كان شخصُه وتغريداتُه وتعليقاتُه تبدو، في كثير الأحيان، مُترعةً على السخرية والمرح، وحتى وإن بدا لنا في بعض الحالات أن رشيد وحْتي يَمِيل، في مجال عمله الترجمي، إلى جعل اللغة في ذاتها موضوعه الأساس، فإن هذا الانطباع لا يعدو أن يكون خَيْدعا. فبمطالعة إنتاجه تتَبَدى لنا قائمة طويلة من المواضيع الجادة التي تتراكب وتتقاطع وتتحاور عبر القَصص والأبيات التي يشتغل عليها، أكانت مواضيع فلسفية، فكرية، أيديولوجية، دينية، أم  إنسانية.

في قصة «بروميثيوس» لِكافكا التي ترجمها ونشَرَها ضمن مؤلَّفِه البديع «ألفُ سطرِ نمالٍ وسطرٌ قبل أن يَرتدَّ لسليمان طرفُه» (ص. 55)، تُعْرَض الأسطورة، أسطورة بروميتيوس، كمقدمة لمساءلة الوثيقة التاريخية ولطرح مسألة إدراك الحقيقة. أو بعبارة أخرى: تُوظَّف ها هنا القصة لإعادة تأويل الأسطورة وبالتالي إعطاءها حياة وحيثيات جديدة- بالضبط كما فعل خورخي لويس بورخيص مع كائن المينوتور الأسطوري في قصته «بَيْتُ أَسْتيريُون» عن مجموعته القصصية «الألِف»، والشيء نفسه فعله عبد الفتاح كيليطو في نصه الرفيع «مِن شرفة ابن رشد»، في مؤلفه الذي يحمل الاسم نفسه.

تحضر أيضا فكرة الزمن الدائري في بعض القصص المترجمة لرشيد وحتي [أذكر منها: قصة "الخيميائي" لـ ألويسيوس برطران (ص. 71) وقصة يانِيسْ رِيتسُوسْ المعنونة بـ «قصةٌ بِلا أهميةٍ» (ص. 62)، وهي الفكرة التي تحيلنا على فكرة المتاهة البشرية [والتي نجد لها أيضا صدى في الأدب لدى كتاب آخرين، ضمن التيار العبثي على سبيل المثال]، كما تحيلنا فكرة الزمن الدائري على مسألة الحتمية (التي نجدها لدى بعض المدارس الأيديولوجية والتاريخية [كالماركسية والخلدونية]).

*

عبر اشتغاله على اللغة كلسان، تحضر اللغة كمُكَوِّن ثقافي وأنثروبولوجي واجتماعي مِحوري. ألم يقل هايدغر أن اللغة بيت الوجود. فمن خلال تمكن رشيد وحتي من أكثر من لغة- العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية- يمتطي ريــــح السفر بين الثقافات. ولَعلَّنا من هنا نفهم خلفية هذا الترحال الدائم الذي لا يهدأ بين النصوص والجغرافيات الثقافية الأدبية، وهذا التطلع متعدد الاهتمامات وزوايا النظر لعالمنا بآدابه وقضاياه وإحراجاته [أدب البلقان؛ أدب شرق آسيا؛ أدب الشرق الأوسط؛ أدب أفريقيا؛ أدب أمريكا اللاتينية؛ أدب الغرب]. ونفهم أيضا مصدر هذه الشِّعرية والجمالية اللتان تنبجسان من بين أصابعه. ونفهم أيضا ما معنى هذا الانوجاد الهادئ في منطقة البين-بين الصعبة تلك، التي يعْبر فيها الكائن كل الحدود ويعلن منها رفضه لهذه الحدود. كَـأني به يسترشد بحكمة درويش التي وردت في قصيدة «طِباق»، التي يقول فيها:

"...في السفر الحر بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشريّ
مقاعدَ كافيةً للجميع.
هنا هامش يتقدَّم. أو مركز يتراجع
لا الشرقُ شرقٌ تماماً
ولا الغربُ غربٌ تماماً
لأن الهويَّةَ مفتوحةٌ للتعدُّد..."

قصيدة «طِباق» (إلى إدوارد سعيد)

فما كان لهذا الترحال الإرادي والواعي أن يمضي دون أن يترك أثره على الفاعل. إذ كان من نتيجته أن وَهَبَنا شخصية أدبية مركَّبة مُحلِّقة زاخرة، فِكرا وتأليفاً ومواقفَ وتجارب ثقافية.

*

في الأخير، أقول: هنالك حاجة مُلحة إلى متابعة هذه التجربة الفريدة. ولعل أقل ما يجب القيام به أن تُشكَّل لجنة تضم نخبة من أدباء المدينة ومثقفيها لـمُدارسة إنتاج رشيد وحتي ونقده وتقييم تجربته. بل والذهاب أبعد قليل لمحاولة اكتشاف جانب الظل في هذه التجربة. خاصة إذا علمنا أن تجربته تتجاوز الأدب إلى الفن التشكيلي والنقد الفني والسينما؛ حيث نجد هنا أيضا، في هذه المساحات، كتابات نقدية ومحاولات فنية في الفن التشكيلي، بالإضافة إلى آراء مقدَّرة في السينما تعكس إلمامَه ومتابعتَه وشغفَه المتعدد وتعذُّر اختزاله في بعد إبداعي واحد.

هنيئا لرشيد بهذا المُنجز الملحمي.. هنيئا للمدينة بهذه القامة الأدبية الرفيعة والمتألقة.


 

 

 

تعليقات