فؤاد بلحسن - التفكير الأخضر وتجديد تفكير المجتمع المدني والمدينة «مبادرة تنشيط العمل المدني (6)»




أليست الدعوة إلى احترام البيئة والعودة إلى بعض ممارسات الماضي المتعلقة بتدبير الموارد واستغلالها دعوة "رجعية" في الكثير من تفاصيلها وتبريراتها؟ والأمر كذلك في نقد بعض أسس فكرة "التقدم". هل نحن بصدد تقييم جديد للزمن في نظرية التحديث؟ إلى أين نسير؟

بالتأكيد، سنكف عن التفكير خطيا في مسألة التحديث لنفتح المجال لتدوير الزوايا.
لنُعد صياغة هذه الاشكالية في التالي: هل سيدفع تأملنا في ماضي بيئتنا إلى إعادة نظرنا في قضايا المستقبل؟ هناك فكرة أو مقولة فلسفية تقول: إن المرء يعمل دائما من داخل التقليد. بل إن العقل ذاته يفعل الشيء نفسه.
لا يستطيع أحد أن يُـنكر أن ما آلت إليه الطبيعة على كوكب الأرض هو من مفرزات الحداثة. وهذا ما يفرض علينا أن نعود ونعيد التأمل في الكثير من كتابات نقادها الأوائل والأواخر على حد سواء.
لقد «نَزعت الحداثة -كما يؤكد على ذلك بعض نقادها (كَـ : هانز فريـيار وأرنولد جِهلين)- إلى تفكيك مؤسسات التواصل التاريخي والتي تُـهيئ إطارا أخلاقيا للحياة» (أنطوني جيدنز، بعيدا عن اليسار واليمين، عالم المعرفة، ع. 286 (2002)، 59).

يظهر أن تجديد تفكيرنا في الكوكب من منظور بيئي دفعنا إلى إعادة طرح أسئلة جديدة عن علاقة مصيرنا كبشر بسلوكنا ككائنات اقتصادية وبتفكيرنا كمستهلكين. بل إنه طرح أسئلة أعمق حول علاقتنا كبشر بالأخلاق كإرادةٍ وفعلٍ مستديم لا يتجاهل سلامة البشرية والكوكب ومستقبل الأجيال القادمة. ويمكن القول أن التفكير الجديد في البيئة يُـعيد، بالتدريج وبيقين في نفس الوقت، تصويب العقل من خلال رسم مرجعيات جديدة. لهذا، فحتى الذين طالما دافعوا وبشَّروا بالمحتوى السياسي-الاقتصادي لفكرة «التقدمية» صاروا أقل راديكالية وأكثر محافَظـةً بعد أن استشعروا خطر هذه الفكرة. فكما قال الشاعر الكبير الراحل محمود درويش: «قد يكون التقدم جسر الرجوع إلى البربرية»! (قصيدة «طباق»).
إن هذا التنشيط الحيوي للعقل، امتد إلى المجتمع المدني على امتداد خريطة العالم، بل ودفعه إلى موقع الطليعة في مسيرة البحث عن البدائل. وهكذا، في أكثر من دولة، صار المجتمع المدني يؤدي دور المُحفِّـز للهيئات السياسية سواء من موقع المعارضة (في الصين، في أمريكا،...) أو من موقع السلطة (رئيس النمسا الحالي من الخُـضر). إنه وجهٌ جديد لتحويل التهديدات إلى فُرص والمشاكل الفرعية إلى مدخل لإعادة النظر في بعض المسلمات السوسيو-اقتصادية. ولن تُفلح محاولات دونالد ترامب، ومعه المشككين في حقيقة الأزمة البيئية للكوكب، في الدفع بالعجلة للوراء، إلى ما قبل التفكير الأخضر. ولنا، منذ الآن، أن نتوقع وننتظر، خلال الأربع سنوات المقبلة من ولاية هذا الرئيس، أن يكبر الفارق السلبي في المجالين البحثي والتقاني المتعلقين بالتكنولوجية الخضراء بين الولايات المتحدة الأمريكية ومنافسيها الدوليين، وعلى رأسهم الصين، الهند، اليابان، البرازيل، والدول الأوروبية (سويسرا؛ ألمانيا؛ السويد؛ بريطانيا).
إننا على مشارف مرحلة جديدة في استراتيجيات التنمية.
فقد دفع هذا الوعي الجديد إلى تطوير العلاقات الدولية وأشكال التضامن العالمي. فمشاكل البيئة، بطبيعتها، عابرة للحدود، وبالتالي يفرض ويفترض التصدي لها معالجة عابرة للحدود هي الأخرى. فمثلا، قاد التصحر في الساحل الإفريقي الكثير من اللاجئين (لاجئو المناخ) إلى سواحل إيطاليا وإسبانيا. كما أن التدمير البيئي الذي تتعرض له الأنظمة الإيكولوجية في حوض نهر الكونغو، أفرز، كما يؤكد ذلك علماء المناخ، اختلالات بيئية أخرى (قلة التساقطات، جفاف،...) في أكثر من منطقة في العالم ومنها الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك بالنظر إلى تبادل التأثيرات بين المجالات الجغرافية وبين الأنظمة الإيكولوجية حتى وإن كانت متباعدة بآلاف الكيلومترات وتفصلها محيطات واسعة. وبالنسبة لحوض المتوسط، يتحدث تقرير الخمسينية (المغرب الممكن (2006)، 243) عن سيناريو مخاطر بيئية كبيرة في أفق 2025 (ندرة الموارد المائية، زحف التصحر،...)؛ حيث يُتوقع، على سبيل المثال، أن يرتفع عدد السكان الذين يعانون من نقص في وفرة المياه في هذا الحوض من 45 مليون نسمة سنة 2000 إلى 63 مليون مع حلول سنة 2025. ومن هنا جاء التفكير في تمويل عشرات المشاريع البيئية في دول الجنوب (خاصة الإفريقية) من قبل دول الشمال والمنظمات ووكالات التعاون الدولية.
ودفَع، أيضا، هذا الوعي البيئي الجديد إلى إعادة توجيه البحث العلمي وخيارات الاستثمار. حيث بات الاقتصاد أشد تعلقا بالبحث العلمي الصديق للبيئة. وهكذا وجدنا أنفسنا في السنوات الأخيرة أمام الكثير من الحقول البحثية الجديدة في مجالات الطاقة المتجددة في أكثر من مجال اقتصادي واستثماري (الكهرباء، النقل، التدفئة المنزلية، السياحة، الفلاحة،...). وأمسى العالم – بما فيه المغرب (مشروع «نور» بورزازات) – مهووسا بالتفكير في الحصة التي يجب أن تأخذها الطاقة المتجددة في مجموع استهلاك الطاقة مستقبلا. وعمليا، ومِن خلال التوقعات التي عرضها برنامج «ما تحت الخرائط» لـ «جون-كريستوفر ڤيكتور»، يُـتوقع، على مستوى العالم، أن تنخفض حصة الطاقة الأحفورية عالية الانبعاثات الغازية (الفحم؛ البترول؛ الغاز) من مجموع الطاقات المستهلكة من 80% سنة 2015 إلى 26% فقط سنة 2037؛ وذلك لحساب ارتفاع حصة الطاقة المتجددة والطاقة النووية الأقل انبعاثا لهذه الغازات.
هكذا، يستطيع المجتمع المدني أن يكون فاعلا رئيسيا في صوغ تصورات جديدة حول المستقبل. عبر تعميق الوعي بضرورة استدامة الفعل التنموي وإيجاد التوازن بين حاجات الأفراد للاستهلاك ومصالح الجماعة، بين النمو وسلامة الحياة. وبالتأكيد ستَستكمل دائرة الفعل دورتها كلما اقتنع الساسة وقطاع الأعمال بجدوى الكتابة في هذه الصفحة الجديدة من تاريخ البشرية.
بالخميسات، هل هناك حاجة إلى وعي بيئي؟
هذا السؤال مشروع يقينا. فهناك وجهة نظرٍ تُشكك في جدوى طرح الاشكالات البيئية في مدينة لا تتوفر على مصانع ولا مخاطر بيئية جدية. لكن، مع ذلك، وبخلاف هذا التوجه الـمُشَكك، يمكن الإجابة بنعم على السؤال أعلاه، والتأكيد على أنه بالفعل هناك حاجة حقيقية لهذا الوعي البيئي بالمدينة. وذلك من منطلق أنه ونحن بصدد البحث – ودون تجاهل وجهة النظر الأولى –  عن فرص تنموية في المستقبل (استثمارات في الصناعة أو في البنيات التحتية مثلا) لا يجب أن يكون ذلك على حساب الإمكانات البيئية المتوفرة حاليا. أعْرض مثالا: إننا لا نستطيع أن نَـعتبر إقامة مَلعب رياضي كبير وبمواصفات جيدة في مكان غابة المقاومة (المرابو) فرصةً تنموية ما دام سيقضي على الغابة الحضرية الوحيدة وبالتالي على وظائفها الإيكولوجية والترفيهية والجمالية التي تؤديها لفائدة المدينة. وقِس على ذلك.
نحتاج في هذه المدينة إلى مبادرات بيئية تجمع بين دعم النظام البيئي والحفاظ عليه من جهة، ومن جهة أخرى، إلى تكريس الوعي بالتحديات البيئية كشرط لخلق ذوات لا تتملص من مسؤوليتها الاجتماعية تجاه البيئة والساكنة المحلية والكوكب. وستكون للمجتمع المدني في المستقبل مواعيد عدة مع أكثر من تحدي بيئي. أقترح التالي على أجندته، عسانا نُسهم جميعا في رفع إيقاعنا إلى مستوى تحديات المرحلة:
1.     تنظيم أنشطة للتوعية والمحافظة على البيئة تستهدف مختلف الفئات العمرية مع التركيز على الصغار والشباب (على مستوى المحاور التالية على سبيل المثال: استعمال الطاقات البديلة، ترشيد استهلاك الطاقة والموارد الطبيعية، النظافة، الاقتصاد الأخضر، الأوراش البيئية الميدانية، العروض التوعوية، الإعلام،...) ؛
2.     توجيه الانتباه إلى المخاطر البيئية الكبيرة التي ترزح فيها الغابة الحضرية الوحيدة بالمدينة، غابة المقاومة (المرابو) من جهة، ودعم الوعي بأهميتها البالغة بالنسبة للمدينة من جهة ثانية. مع العمل، بكل جهد، على دفع المجلس البلدي وباقي الهيئات المعنية إلى إعادة هيكلة هذه الغابة؛ من خلال مشروع شامل يضمن استدامتها ويُخرجها من تحت سقف التهديد بالزوال في العقود القليلة المقبلة.
3.     إطلاق بحث مختبري وعلمي معمق حول جودة مياه الشرب بالمدينة؛ وذلك لحسم النقاش حول مدى جودة هذه المياه ومدى ضمانها لسلامة المستهلكين/الساكنة على المدى المتوسط والبعيد.
4.     إطلاق مبادرات ميدانية لتشجير الأحياء (لقد سبق أن اقترحت تشجير المدينة بـ 150 ألف شجرة – وهو عدد تقريبا عدد ساكنة المدنةي - كطريقة لتغيير المشهد الحضري للمدينة في ظل اختناق الحركية التنموية = تغيير المشهد الحضري بأقل تكلفة. عجزنا في استثمارات التصنيع لما لا نجرب الاستثمار في البيئة؟!).
    5. تنظيم موائد مستديرة حول الاقتصاد الأخضر. وذلك في أفق خلق وتنشيط ثقافة داعمة للاستثمار في مشاريع صديقة للبيئة يكون من شأنها خلق فرص جديدة للشغل ودعم حركية الاقتصاد المحلي. فالجماعات البشرية الصغيرة (جمعيات، تعاونيات،...) لها ما تقوم به تحت عنوان المشاريع الصغيرة الصديقة للبيئة بالنظر لما يزخر به الإقليم (المحيط الطبيعي لمدينتنا) من موارد طبيعية وبشرية مهمة يمكن أن تشكل حافزا نحو خلق أنواعا جديدة من المقاولات الصغيرة والمتوسطة التي تستثمر في المشاريع المستدامة.

belahcenfouad@gmail.com
 

تعليقات